عن إبراهيم أصلان

ت + ت - الحجم الطبيعي

موجزُ الخبر أَنَّ إِبراهيم أَصلان توفي عن 77 عاماً، تُطالِعُه ببعضِ الاستغراب، لأَنَّ القاص والروائي المصري المعروف، لم يكن يوحي بهذا العمر المتقدِّم، وإِنْ نعرفُ أَنَّه لم يكن صغيراً.

نظنُّها الحيويةُ الرائقةُ التي اتَّصفَ بها فقيد المدوَّنةِ السردية العربيةِ الكبير، تجعلُنا نتخيَّلُه أَقلَّ عمراً، وهي حيويةٌ تتَّصلُ، بداهةً، بما امتازت به كتابتُه الرائقة، والتي لا تزيُّدَ في اعتبارِها منجزاً ثريّاً في الروايةِ والقصةِ العربيتين، على قلِّتِها التي طالما ارتبطت بأَصلان، بوصفِه كاتباً حذراً مُقلاً، وهو الذي قالَها، غير مرَّةٍ، إِنه بقيَ مرعوباً من الكتابة.

 تسعةُ كتبٍ صغيرة، رواياتٍ وقصصاً ومقالات، فقط أَصدَرها أَصلان طوال أَزيدَ من أَربعين عاماً، الجوهريُّ فيها أَنَّها ذاتُ سمتٍ متقشفٍ وأَنيق، تتوخّى الدقةَ والطرافةَ والإِشراق، استمدَّت مادَّتها من الحياةِ نفسِها، أَي من التفاصيلِ اليوميةِ للناس الذين عايَشهم الراحل الكبير، وانحازَ إِليهم في حضورِه الثقافيِّ وفاعليَّتِه كاتباً وروائياً، ولذلك كان انتسابُه إِلى الحركةِ المصرية للتغيير "كفاية"، وكان عزوفُه عن تلبيةِ دعوةٍ إِلى الالتقاءِ بحسني مبارك، مع كتّاب ومثقفين آخرين، في سبتمبر/ أَيلول 2010، وكانت، أَيضاً، نصرتُه ثورة 25 يناير، وبهجتُه بشبابِها، وقد دوَّنَ يومياتٍ منها تنتظر من ينشرها.

تُراها جملتُه القصيرة، أَو التلغرافية بحسبِ بعضِ وصفِها، ومفرداتُه المحسوبةُ بأَناقةٍ في أَدبِه، تعودُ إِلى عملِه طويلاً "بوسطجيّاً" وموظفاً في قسم البرقيات البريدية، قبل أَنْ يُزكّيه نجيب محفوظ ليعملَ في وزارة الثقافة، باعتبارِه "موهبةً فذَّةً وله مستقبلٌ فريد"؟ أَم هو انحيازٌ جماليٌّ تبناه منذ اختار أَن يكون كاتبَ حكاية، من دون تحصيلٍ مدرسيٍّ عال (كما عباس العقاد)، وقد تمكَّن بعصاميةٍ، في حي إِمبابة الشعبي في القاهرة، من تحصيلِ ثقافةٍ عاليةٍ ومعرفةٍ واسعةٍ بمنجزاتٍ أَدبيةٍ عربيةٍ وعالميةٍ كثيرة، فصار واحداً من أَعلام الكتابة الرفيعة ضمن جيل الستينيات الباهر في مصر، مع رفاقِه محمد حافظ رجب وجمال الغيطاني وصنع الله إِبراهيم وغيرِهم، والذين مثلت كتابتُهم الطليعيةُ الأولى، بشارةً مهمةً في مسارٍ فريدٍ للمنجز الإِبداعيِّ المهم الذي أَطلَّ في مصر لاحقاً.

وفيه، استحقَّ إِبراهيم أَصلان مطرحَه صوتاً خاصّاً، صاحبَ أَناقةٍ أُسلوبيةٍ حارَّة، ولذعةٍ ساخرةٍ أَحياناً، في الأَجواء التي يُشخِّصُها ويكتبُ عنها، والتي أَغوت مخرجيْن بديعيْن في السينما المصرية، هما داود عبد السيد ومجدي محمد علي، لإِنجاز الفيلمين الشهيريْن، "الكيت كات" عن رواية مالك الحزين (1983)، و"عصافير النيل" عن الرواية التي تحمل اسمَه (1999). وفي البال أَنَّ أَصلان وصف نفسَه، مرَّةً، بأَنه "كاتب الكاميرا"، وهو وصفٌ في مطرحِه، بالنظر إِلى حذاقةِ أَعمالِه السردية، ومقالاتِه الرشيقة، في التصويرِ والتعبيرِ والإِيحاء، باقتصادٍ لغويٍ وتكثيفٍ ينشغلُ بلحظاتٍ عابرة، وبتشذيبٍ وبساطةٍ رائقتيْن، وبلقطاتٍ موجِزَةٍ، وبانشغالٍ متقنٍ بالتفاصيلِ الصغيرة، وبتقطيرٍ شفيف.

الدرسُ الأَهمُّ الذي يُعلمنا إِياه إِبراهيم أَصلان، منذ قصصِه في "بحيرة المساء" (1971)، وصولاً إلى متتاليتِه "حجرتان وصالة" (2009)، مروراً برواية "وردية ليل" (1991) و"حكايات من فضل الله عثمان" (2003)، وغيرِها، هو الإِخلاص للكتابة، باعتبارِها مسؤوليةً جمالية، لا ثرثرةً مجانية وكلاماً مسترسلاً. وكان يعتبرُ نفسَه عاشقاً للكتابةِ وهاوياً لها، وليس كاتباً محترفاً مفروضاً عليه أَنْ يكتب.

بمثل هذا التواضع، كان الحكّاءُ الجميلُ يخوضُ مراسَه مع فعلِ الكتابةِ، ويؤاخي بين الشفوي والمكتوب، ما جعل تجديدُه في الحداثةِ الروائيةِ والقصصيةِ واحداً من "أَعمدةِ السرد العربي الحديث"، على ما قال وزير الثقافة المصري، شاكر عبد الحميد.

وهذا كتاب "خلوة الغلبان" (2003) بين يدي كاتب هذه السطور، فيقعُ فيه على مؤانسةٍ وإمتاعٍ وفيرين، في المقالاتِ القصيرة التي يضمها، والتي تُؤشِّر إِلى عذوبةٍ ووداعةٍ خاصةٍ في شخصيةِ كاتبِها، إِبراهيم أصلان، الذي تعدُّ وفاتُه خسارةً كُبرى للثقافةِ الجمالية العربية، رحمه الله.

Email