لا خوف في تونس

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعله الخوفُ، المكبوتُ والظاهرُ، الملمح الأَهم لدى شخصياتِ رواية التونسي الحبيب السالمي "نساء البساتين"، والتي تعدُّ نصّاً سردياً بالغَ البساطةِ، والتقريريّةِ، والحياديّةِ ربما، لكنه كاشفٌ، إِلى حدٍّ لافتٍ، لذلك الخوف الذي كان يُخيِّمُ على تونس وأَهلها إِبّان نظام زين العابدين بن علي، وإنْ لا يُحسَبُ ذلك النظام ستالينيّاً وذا قبضةٍ حديديةٍ مرعبة، بل يمكنُ نعتُه نظاماً استخبارياً شديدَ الوطأةِ التجسّسّية على مواطنيه.

مع مقاديرَ من ديمقراطيةٍ ديكوريةٍ لم تمنعْ بن علي من ترتيبِ "التزبيطاتِ" الدستوريةِ، التي يسَّرت له احتلالَه قصر الرئاسة ولاياتٍ لم يكنْ ممكناً أَنْ تتوقَّفَ من دون الثورة التي اشتعلتْ قبل عام، ثم أَخذت تونس إِلى انعطافتِها نحو الديمقراطيّةِ الحقّةِ والحكمِ الرشيد.

وكان احتفاءً طيِّباً بها من مهرجان دبي السينمائي، استضافتُه فيلماً حاذِقاً عنها، أَنجزَه وصوَّره مراد بن الشيخ وحاتم ناشي. وأَنْ نُشاهدَه يومَ أَنْ تختار تونس رجلَ الكفاحِ الحقوقيِّ النظيف، المنصف المرزوقي، رئيساً في المرحلةِ المؤقتةِ الراهنة، فذلك تزامنٌ محمود، سيّما وأَنَّ الفيلم ينشغلُ بتظهيرِ شعبِ تونس في أَيام ثورتِه الظافرة، وهو يُحطِّمُ كلَّ خوفٍ استبدَّ في بلادِه طويلاً، ومضى يُواجه الطاغيةَ ونظامَه بالتظاهر والاحتجاج المدني.

وفيما المرزوقيّ ظل اسماُ مقلقاُ لذلك الطاغيةِ، في دأْبِه على تعريةِ النظامِ المخلوع من ديكوريَّتِه عن الديمقراطيّةِ والتعدديةِ ومعجزةِ التنميةِ، ودفع أَكلافَ نضالِه هذا وغيرِه بجسارةٍ، وهو يتعرَّضُ للسجنِ والاضطهادِ والإِقصاءِ، قبل أَنْ يتمكَّنَ من مغادرةِ بلادِه، فيصير صوتاً للتونسيين في المجتمعِ الحقوقي العالمي، من دون أن يرتضي لنفسِه صفةَ اللاجئ السياسيِّ في فرنسا، وكان قد تخصَّص فيها في الطب الوقائي وطب الأَعصاب.

ليست رواية الحبيب السالمي عن قمعٍ وسجونٍ ومعتقلي رأْي، بل هي حكايةُ ذاتُ رهافةٍ عن تونسيٍّ مقيمٍ في باريس، يُستضافُ في منزل أَخيه أَثناءِ زيارتِه العاصمة تونس أُسبوعين. يقع قارئِها على إِحالاتٍ وترميزاتٍ موجزةٍ إِلى حالةِ اختناقٍ حادٍّ في البلاد، حيث الناسُ يُراقبون بعضَهم، بحسبِ واحدةٍ من نساءِ الرواية، وحيث السلطة السياسيّة والأَمنية والحزبية ثقيلةٌ، وتتحكَّمُ، إِلى حدٍّ كبير، في المجتمعِ وفضاءاتِه.

لعلَّه هذا المناخُ استهدفتْه الثورةُ التونسيةُ في واحدةٍ من أَبرز تجليّاتِها، كما يتبدّى ذلك في فيلم مراد بن الشيخ وحاتم ناشي، والذي كان فائضَ العذوبة فيه حضورُ المحاميةِ المناضلةِ راضية نصراوي وزوجِها حمّة الهمامي، الذي بات عشيةَ فرار بن علي في زنزانةِ مركز أَمن. يُلاحقُ الفيلم مشاهدَ في الثورةِ وفي احتجاجاتٍ حاشدةٍ غاضبةٍ على الحكومةِ التي تسلمت، تالياً، تسيير البلاد.

يقول الفيلم، الوثائقيُّ التسجيليُّ الحكائيُّ في تنويعاتِه البصرية، الكثير عمّا كانت فيه تونس، وعن أَشواقٍ غزيرةٍ لدى أَهل تونس إلى إِزاحةُ الخوف من غير رجعة، كما في وسع مُشاهدِ الفيلم أَنْ يلحظَ ذلك في دردشاتِ مشاركين فيه، منهم الشابة لينا بن مهنّي، المدوِّنة التي ساهمت، بلا خوف، في الثورةِ عبر "فيسبوك" وبالكاميرا.

ذو دلالةٍ قصوى في أَهميته ورمزيِّتِه ومضامينِه وصول المرزوقي إِلى القصر الرئاسي في قرطاج، ليس لما غالبَه هذا الرجل، أَو لجُهدِه الحقوقيِّ في غير مطرح، وقد كان أَولَ رئيسٍ للجنة العربيةِ لحقوق الإنسان، بل أَيضاً للتوافقِ الواسعِ على شخصِه، ولرجاحةِ رؤيتِه التي انحازت، دائماً، إِلى المشترك بين الفاعليّات والحساسيّات السياسية، فهو اليساريُّ القوميُّ الذي وجدَ ضرورةً في الالتقاءِ مع حركة النهضة الإسلاميةِ، ومع قوىً تقدميّةَ السمتِ والبوصلة، للذهابِ بتونس إِلى أُفقٍ تعددّيٍّ حقيقي، فقناعتُه أَنَّ بلادَه يستحيلُ أَنْ تنجَحَ جهةٌ منفردةُ في إِدارتِها.

نظنُّه أَصاب، ليس بشأْنِ بلدِه فقط، بل، أَيضاً، بشأْنِ كل بلدٍ عربي، ينكسرُ الخوفُ فيه من تجبُّر السلطةِ، ويُعرِّفنا فيلمٌ رائقٌ على شيءٍ من هذا في تونس، اسمُه "لا خوفَ بعد اليوم".

Email