سوريا و«العدوان الإعلامي»

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تزال غيرَ منسيَّةٍ نكتةُ غوار الطوشة في مسرحيةِ ضيعة تشرين، قبل 37 عاماً، لمّا طلب من "أَبو نارة" أَن يفتحَ الراديو في دكّانِه على إِذاعة لندن، ليعرف أَخبار ضيعته. والبادي أنَّه مستحيلٌ أَنْ نعرفَ، نحن العرب، من الفضائيةِ السوريةِ الجاري في بلادِها، ليس فقط لانشغالِها بالتعبئةِ الدعائية والتحشيد الكلاميِّ، لإِقناعنا بمنظورِ السلطة هناك بشأن المشهدِ الحادثِ، والقتل المتواصل، في حماة وحمص والرستن وإدلب ودرعا وغيرها، بل أَيضاً لأَنَّ الإِصلاح الذي قيل عنه كثيراً في دمشق، وشاعَ أَنَّه سيصيبُ الإِعلامَ الحكوميَّ هناك بموجبِ تشريعٍ صدرَ في خصوصِه، شديدُ الاستعصاءِ، فلا يغشى عيونَنا شيءٌ من رذاذِه، وهذا وئام عكاشة يُقدِّم واحداً من دلائلَ لا عدَّ لها على زعمنا هذا.

هو أَسيرٌ سوريٌّ تحرَّر من سجون الاحتلال الإِسرائيلي، في صفقة تبادل شاليط قبل أَيام، بعد عشر سنواتٍ من الاحتجاز فيها، غادرها إِلى منزلِه في الجولان، ولم يحظَ بخبرٍ موجز في الفضائية المذكورة، ولم تُصادَف له صورةُ أَو مقابلةٌ معه في أَيٍّ من الجرائد الرسمية، لا لشيءٍ سوى لأَنَّ عكاشة ناصرَ في الشهور الماضية، من محبسه عند العدو، الثورةَ في بلادِه، وأَضربَ عن الطعام تضامناً مع الضحايا والقتلى والجرحى فيها.

لا توردُ الفضائيةُ السوريةُ شيئا عن أَعداد هؤلاءِ اليومية، تنقلُ عن المصادر المسؤولةِ بياناتِها عمَّن يسقطون من الجنودِ والعسكريين من الجيش وقوى الأَمن، فيضطرُّنا عدم اكتراثِها هذا بأُولئك الموتى من السوريين إِلى الجهر بزعمٍ آخر، وهو أَنَّ أَرطالاً من البلاهةِ يحتاجُها من يريدُ تصديقَ الحديث الرسمي في دمشق عن إِصلاحاتٍ وحوار مع المعارضة. وفي البال أَنَّ السيدةَ البعثية سميرة مسالمة أُقيلت من رئاستِها تحرير "تشرين"، بعد ساعاتٍ من انتقادِها السلوكَ الأَمنيَّ المروع وشديدَ الفظاظةِ في التعاملِ مع المتظاهرين في درعا.

تصرُّ السلطةُ في دمشق على أَنَّها تتعرَّضُ لما تسميه عدواناً إِعلامياً تحريضياً من فضائياتٍ وقنواتٍ تلفزيونية، وأَنَّ هذه هي المسأَلةُ الحادثةُ في سوريا وليس غيرُها، لكنَّنا، نحن محبي سوريا وشعبِها، لسنا وحدَنا من تُضلِّلنا تلك الفضائياتُ المعتدية، فهذه حكوماتُ 18 دولة عربية لا تُصدِّق الروايةَ الرسميّة السورية، كما تَبيَّنَ في تصويتِ المجلس الوزاري العربي السبتَ الماضي. وفي البال أَنَّ دمشق لم تأْذَنْ للتلفزاتِ ووسائل الإِِعلام العربية والأَجنبيةِ بالتجول في سوريا، فيما هذا الأَمرُ من بنودِ الخطة العربية التي قالت إِنها وافقت عليها وستنفذُّها.

وفي البال، أَيضاً، أَنَّ الأَمين العام لجامعة الدول العربية، نبيل العربي، نقل عن الرئيس بشار الأَسد، في لقائِهما قبل أَسابيع، موافقتَه على مزاولةِ "الفضائيات غير المغرضة" شغلها في سوريا، ونظنُّها أُحجيةً صعبةَ الحلِّ معرفةُ المغرضةِ من سواها بين الفضائيات، سيِّما إِذا احتكمنا إِلى المعيار الذي تأْخذُ به التلفزة السورية. وليس أحبَّ على قلوبِنا من أَنْ يكون القتل اليوميُّ في حمص وحماة وسواهما كذباً، واعتداءً إِعلامياً تقترفُه القنواتُ، التي ربطَ التلفزيون السوريُّ بثَّه مع بثِّ إِحداها عند تنحّي حسني مبارك وبهجةِ الشوارعِ المصرية والعربيةِ عقب ذلك الحدث، وكان الإِعلام الرسميُّ في دمشق ينقلُ عنها، أَحياناً كثيرةً، أَخبار الثورة المصرية في أَيامها الـ18، فأَنْ يكون ذلك كذباً سيعني نجاةَ من توردُ لجانُ التنسيق المحليّة والهيئة العامة للثورةِ السورية والمركز السوري لحقوق الإِنسان، أَخبار مقتلهم من التمويت.

لا تتجول كاميراتُ الفضائيات العربية، المغرضة، في مواقع التظاهر والاعتداءات المسلحة وإطلاق الرصاص والقذائف في غير مدينةٍ وبلدةٍ سورية، لكنها تتمكن من ارتكابِ عدوانِها وتحريضِها، فكيف لو أَنها هناك؟ سؤالٌ تستحيلُ الإِجابة عليه من دون إِذنِ السلطةِ الأَمنية الحاكمة لتلك الكاميرات بمزاولةِ عملها الإِعلامي، ما يجعل نكتةَ دريد لحام في (ضيعة تشرين) في مطرحِها السوريِّ تماماً.

Email