أَنْ نتذكَّر تشاوشيسكو

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يحظَ معمر القذافي بمثلِ الدقائقِ القليلةِ التي تيسَّرت لنيكولاي تشاوشيسكو في محاكمتِه العسكريةِ، إِبّان إِعدامه قبل 22 عاماً. ميتةُ العقيد الليبي، والذي كان فالتاً أَسابيع ثم أُمسِكَ به لما صودفَ خارجاً من مسربِ صرفٍ صحّي، تُذكِّر بميتةِ الدكتاتور الروماني، أَي بما بين الاثنتيْن من متشابهاتٍ واختلافات، وأَيضاً بما كان عليه الاثنان من مباذِل، منها ولعُهما بخلعِ الأَلقابِ الفريدةِ على شخصيْهما، فقد سمّى تشاوشيسكو نفسَه "القائد العظيم" و"المنار المضيء للإنسانية"، وظنَّ "ملك ملوك أفريقيا" و"عميد الحكام العرب" نفسَه صاحبَ نظريةٍ عالميةٍ ثالثة.

ومما اشترك فيه القتيلان، أَيضاً، أَنَّ القذافي أَباحَ لشخصهِ ولأَولادِه التنعمَّ بأَموال ليبيا بالعيش في ترفٍ مهول، وكأَنها أَملاكٌ شخصيّةٌ وعائلية، من قبيل تباهي نجلِه، ومثيلِه في المقتلةِ البائسة، معتصم، بإِِنفاقِه مليوني دولار كلَّ شهرٍ على حفلاتِه ونزواته. وامتلك تشاوشيسكو خمسةَ قصورٍ ضمَّ أَحدُها أَلفَ حجرةٍ وعشراتِ الفلل والطائراتِ الباذخة، فيما كان رومانيون وليبيون يُغالبون مشاقَّ العيشَ الصعب. كان المشهد الأَخير للقذافي ميّتاً جثةً مُهانةً في صندوقِ حافلة، ثم مرميةً على فرشةٍ في ثلاجةِ خضارٍ في مصراتة، ليتفرَّجَ عليها ليبيون اصطفّوا طوابيرَ ليشمَتوا بصاحبِها.

وفي مشاهدِه الأَخيرة حياً، ظهرَ مُهاناً يصفعُه من وقعوا عليه ويركلونه، وهو يتوسل إِليهم شيئاً من الرحمة، بدا ملطشاً أَمامهم، وقد استيقظت فيهم غريزةُ الانتقام، الهستيريِّ ربما، والتي لا شططَ في القول إِنها من صناعتِه في ليبيا.

اشتهى كثيرون أَنْ يُطلَّ القذافي على ملايين النظّارة في العالم في قفصٍ في محكمة، عساه يُسعفنا بمقاطعَ أَخيرةٍ من تهريجِه المديد، لكن حصادَ ما زرَعه في نفوس الليبيين من حقدٍ وحنقٍ عليه، حرمنا من هذه المشاهد. فرَّ من طرابلس هارباً من ليبيين "جرذان" ممن كان يحتلُّ أُمسياتِهم بخطبِه الطويلة، وحدثَ مرَّةً أَنه أَبقى مشهدَ حذاءٍ في التلفزيون ثابتاً أَياماً قدّامهم، عقوبةً لهم على عقوقٍ ما. هربَ بكيفيَّةٍ لم نعرفْها بعد، ثم قضى في ميتتِه التي جاءَت عصيَّة على التخيّل.

أَما تشاوشيسكو، ففرَّ من المتظاهرين ضدَّه الذين احتشدوا قدّام قصرِه، بينما كان يخطبُ في الشعبِ على الهواءِ مباشرةً في التلفزيون، سمعَ هتافاتِهم ضدَّه فتوقفت الصورة على الشاشةِ دقائق، ثم تسلل مع زوجتِه عبر سردابٍ إِلى مروحيةٍ نقلته خارج بوخارست، وفي سيارةٍ صغيرةٍ سرقَها أَعوانُه في مزرعةٍ، قبضَ عليهما فلاحون، ثم أُجريت لهما المحاكمةُ العسكرية إِياها، وفي دقائقها القليلةِ كانت لافتةً محاولةُ تشاوسيسكو إِسكاتَ زوجتِه عندما توسلت القضاة والمدعين، وكأَنَّه أَرادَ لشخصِه شيئاً من احترام الذات وتقديرِها. في تلك اللحظة الأَخيرة قبل شنقِه في ميتةٍ لم ينعمْ بمثلِها القائد الآتي من الخيمة، معمر القذافي، والذي كادَ يتحولُ، في أَفهام بعضِنا، إِلى ضحيَّةٍ تستنفر تعاطفاً معها، بسببِ انتشار صور بدنِه المدمّى مخفوراً بين أَيدي شبّان ليبيين أَعمارُهم أَقلُّ من سنواتِ طغيانِه.

يُقال إِنَّ مطرح قبر تشاوشيسكو غيرُ معلومٍ للعامّة، كما الذي في صحراءِ ليبيا لقبر القذافي. وكذب الفرنسيون، على الأَغلب، لمّا قالوا إِنهم من دبّروا سيطرة المتظاهرين الرومانيين على التلفزيون، عندما كان تشاوشيسكو يدلقُ خطبتَه الأَخيرة، وكذبوا، على الأَغلب أَيضاً، لمّا قالوا إِنَّ طائراتٍ حربيةً تتبع لهم قصفت موكبَ سياراتٍ كان القذافي في إِحداها قبيل العثور عليه. وبإِصابَتها برذاذِ ثورتي جارتيْها تونس ومصر، شابَهت ليبيا رومانيا التي كان جيرانُها في هنغاريا وبولندا وبلغاريا، قد نجحوا للتو في ثوراتِهم.

وإِذا صحَّ ما قرأْناه عن أَنَّ قيادة الجيش المصري طلبت من حسني مبارك في الساعات الأَخيرة لعهدِه أَنْ يتنحّى، لأَنها لا تَرضى له مصير تشاوشيسكو، فإِننا نكون أَمام متواليةٍ من سرديةٍ طويلةٍ اسمُها تشاوشيسكو، يمكن إِدراج معمر القذافي ومقتلته بين حبّات فصوصِها الشاحبة.

Email