ليس الأول.. ولن يكون الأخير

ت + ت - الحجم الطبيعي

النهاية الدموية لحياة العقيد الليبي معمر القذافي، ليست الأولى لحاكمٍ حكم بالحديد والنار وبهما مات. كثيرة هي الأمثلة التاريخية لتفاصيل الفصول الختامية من حقب قادة اختصروا الوطن باسمهم وتعددت ألقابهم الكرنفالية، حتى أمسوا هم أنفسهم سيركاً متحركاً.

نقد الكيفية التي قتل من خلالها القذافي، والتباكي على اللحظات الأخيرة التي عايشها قبل أن يلفظ أنفاسه، من سحل ولطم واستهزاء، أشبه بمن يقرأ الكتاب من آخره، أو أقرب إلى جدلٍ بيزنطي يتمسك بالجزئيات ويغفل الصورة الكبيرة، متناسياً المآلات المنطقية التي سيذهب إليها حكم من نوع «قائد ثورة الفاتح»، الذي دفن روح المدن الليبية وأنسى العالم وجه وطنه وهوية شعبه، بعد أن أجبرهم على حفظ مفردات: «الكتاب الأخضر» و«الطريق الثالث» و«السلطة الشعبية» و«إسراطين».

مات القذافي وكفى. سبقه إلى مصيره الأسود المحتوم دكتاتوريون كثر، أحرقوا بلادهم وتلظوا بنفس النار التي أشعلوها. لا تزال عالقة في الأذهان مشاهد جزار رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو، وهو يستجدي يائساً الجماهير المحتشدة لتحيته قبل أن تنقلب ضده بشرارة أطلقها أحد الحاضرين. ويبقى المقطع الذي صور عملية إعدامه مع زوجته المكروهة، ماثلاً لكل من لم يتعلم من التاريخ.

سبقت إيلينا تشاوشيسكو العقيد الليبي في طلب الرأفة من فرقة الإعدام، لأنها ربتهم «مثل أولادها»، غير مصدقة لخاتمتها. هكذا أيضاً خاطب القذافي «أولاده» الذين اعتقلوه، بعد أن كان وصفهم بـ«الجرذان»، في حين تفوق عليه زميله الروماني بنعته ثوار تيميشوارا بـ«الخونة»!!

تكمن المفارقة الصارخة لدى الحديث عن الحاكم المستبد، في النظرة الأبوية التي تتملكه تجاه مواطنيه، بما تعنيه من انعزالٍ تدريجيٍ عن الواقع، متزامنة مع القناعة بأن لا غضاضة في تأديبهم وشتمهم وضرب كل من يتمرد على حكمه البطريركي، تماماً كما يفعل رب الأسرة. ففي حين دفع تشاوشيسكو خلال محاكمته العرفية، التي دامت ساعة ونصف الساعة وانتهت بتصفيته رمياً بالرصاص دون أن تثير أدنى جدل بشأن طريقة الإعدام والمحاكمة، بأنه وفر بيضة لكل مواطن على مائدته.

تغنى «أبو شفشوفة» بأنه أمد الليبيين بالنفط والحرية. أدخل «الرجل الأخضر» بلاده في دوامات الحروب والصراعات العبثية طوال 42 عاماً، وأنهكها بحصارٍ، إشباعاً للأنا المتضخمة التي تحولت إلى «بارانويا».

لكن أهالي مصراتة، سربرينيتشا العرب، حينما أمسكوا بتلابيبه، لم يعلقوه رغم ذلك من قدميه في الساحة العامة، كما فعل الطليان مع بينيتو موسوليني تماهياً مع التقليد الروماني القديم، ولم يتركوه فرجةً لكل من يشتهي البصق عليه وضربه بالنعال، بحسب ما ارتأى صانعو النهضة الأوروبية التصرف مع «الدوتشي» الفاشي، دون الالتفات لدموع التماسيح الإنسانية، وهو الذي أدخلهم في حرب عالمية مدمرة وأرهبهم داخلياً عبر «القمصان السوداء»، النسخة الإيطالية من اللجان الشعبية الليبية.

ولأن مصائر الطغاة تتشابه، كان من المنطقي أن تكتب نهاية «ملك ملوك إفريقيا» في أنابيب الصرف الصحي، كما أُخرج بطل «قادسية صدام» و«أم المعارك» من حفرة مظلمة كث الشعر رث الهيئة، بعد ثمانية شهور من انتهاء حكمه، تماماً كزميله الليبي الذي أجهز عليه سكان بنغازي في 17 فبراير. ولربما كان الدكتاتور العراقي أسعد حظاً، لأنه وقع في أيدي أعدائه الذين وفروا له منبراً إعلامياً عبر كرسي الاتهام، كان يمكن للعقيد أن يستغله لتصديعنا وهو يتحفنا بنظرياته الفريدة وحلوله لمشاكل العالم.

لا شك أن ناقوس الخطر يدق الآن في رؤوس خريجي مدرسة النماذج آنفة الذكر، خاصةً في المنطقة، مع أن معدة المستبدين تأبى، عادةً، هضم دروس التاريخ، وينسى زهايمر عقولهم أن أوطانهم أكبر من أسمائهم.

 

Email