عن «موت للبيع»

ت + ت - الحجم الطبيعي

تفرُّ من وطأَةِ رتابةٍ ثقيلةٍ باتت تغْشى أَيامَك كثيراً، إِلى السينما، وفي قناعتِك أَنَّ التسريةَ عن النفسِ بمشاهدةِ ما يتيسَّر من إِبداعات الفن السابع، هي من أَحبِّ ما ترتضيه، فتغادر إِلى مهرجان أبوظبي السينمائي. تصادِفُ هناك فيلماً مغربياً اسمُه "موت للبيع"، تُحاول أَنْ تُزيحَ الكآبةَ الماثلة في العنوان، وتدلفَ إِلى قاعةِ العرض، وفي بالك سنواتُ إِقامتك في المغربِ الذي لا يبرحُ بالك وخواطرك. تقرأُ في موجزٍ عن الفيلم أَنَّ فضاءَه في تطوان، المدينةِ التي تغفو في ذاكراتِنا منذ الأُنشودة إِياها في مدارسِنا الابتدائية، وفيها أَنَّ بلاد العُربِ أَوطاني، من نجدٍ إِلى يمنٍ إِلى مصر فتطوان.

 يروحُ الخاطرُ إِلى زيارتك هذه المدينة الصغيرة الساحلية في شمال المغرب، قبل أَزيدَ من عشرين عاماً، تابعت فيها في أَربعةِ أَيامٍ ملتقىً جيداً عن الأَدب والسينما، وشاهدتَ أَفلاماً جذابة، وتجولت مع خيري بشارة وغالب شعث وكمال رمزي وهاشم النحاس وخميس خياطي في شوارع تطوان وأَسواقها، ومع جميع الحضور كانت تجوالاتٌ أُخرى في مواضعَ متنوعةٍ في المدينةِ وشاطئِها، في مطاعمَ ومقاهٍ وساحاتٍ غير قليلة. تُحرِّر نفسَك في قاعة السينما في "مارينا مول" في أَبوظبي، من حنينٍ ما إِلى أَيامك المغربية، وإِلى أَيامٍ أُخرى غير قليلة كانت أَكثر حرارةً وجمالاً من راهنِك المثقلِ بالتواطؤات والأَعباء البائسة، وتُسْلمُ عينيك إِلى الموتِ الذي قدامك للبيع، وكأَنَّ الحياةَ بيعت، ولم يبق سوى الموتِ معروضاً لمن يشتريه.

أَجواءٌ من البؤس والإِحباط واليأْس والضياع، في تفاصيلَ من عالمٍ سفليٍّ ووضيع، يحفلُ بها هذا الفيلم الذي أَنجزه المخرج المجتهد، فوزي بن سعيدي، تتورط في متابعتِها من خلال حاضرِ شبانٍ ثلاثةٍ تائهين، لا يعرفون كيف يصرفون أَوقاتهم، فيمارسون السرقة والعيش على هامش المجتمع، يُكابِدون رغباتٍ حرّى في دواخِلهم من أَجل عيشٍ أَنظف، ومن أَجل أَن يتيسَّر لهم مالٌ يصعدون فيه إِلى عالمٍ هانئٍ ومطمئنٍ ووديع. ساحاتُ تطوان وشاطئُها ومحطة القطار فيها وأَحياؤها الشعبية الفقيرة، وميدانُها الرئيسي، ومزارعُها وجبالُها وشوارعُها، وفنادقها المتواضعةُ وبيوتُها البسيطة، كلها وغيرُها قدّامك في الفيلم.

الكاميرا تنقلُ الشبانَ الثلاثة بين مجاميعَ من ساكنةِ تطوان وأَهاليها، وبين فتيات الليل أَيضاً. وإِلى كل هذا البؤس، الشفيفِ والحادِّ معاً، ثمَّة سماءُ تطوان على الشاشةِ وديعةً ورائقة، توحي بالانشراحِ والهناءَة، فيما على الأَرض قتامةٌ وضيقٌ خانقان، حيث البطالةُ والمخدراتُ والدعارةُ والكذبُ والخيانةُ والتجبُّرُ والتسلط والفسادُ والحبُّ المأزومُ والسرقةُ والخوف، ولا مطرح لغير هذه السوءاتِ في الفيلم.

يتحمَّسُ أَصدقاؤنا الكتّاب عن الأَفلام، فيرون أَنَّ العالم سينما، وأَنَّ السينما كلما كانت أَكثرَ تماسّاً مع الحياة تصير أَجملَ وأَكثرَ إِبداعاً. الحياةُ في "موت للبيع" متاهةٌ، يبدو البحثُ عن منجاةٍ من السقوط في رداءاتِها صعباً. ربما تكون هذه موتيفة هذا الفيلم، الحاذقِ في بعضِ مطارحِه، والمتناغمِ في سردِه، والبديعِ، أَحياناً، في استخدامِه الكاميرا سريعةً وبطيئة، فحافظَ على إِيقاعِه الرشيق، وإن تخلَّله بعضُ التشوش، سيّما وأَنَّ تفاصيل بوليسيّة فيه، برعَ أَبطال الفيلم الثلاثة في تشخيصِها، فهد بن شمسي وفؤاد لعبيد ومحسن مازي، ومعهم إِيمان المشرقي، وفي تعبيرِهم عن المشاعر المتحولة في الشخصياتِ الحائرة والقلقةِ التي يجسِّدونها. ومقتلُ أَحدِهم، والقبضُ على آخر في حادثةِ سرقتِهم الفاشلة لمحلَّ مجوهرات، ليسا نهاية الفيلم، بل ذهابُ ما سرقوه إِلى الفتاة التي تحبُّ ثالثهم، ويُختَتم الفيلم بمشهدِه واقفاً بالمقلوبِ عند حافَّةٍ عليا، فلا يقفزُ منها منتحراً كما قد يتوقع المشاهد.

تدورُ الكاميرا في تصويرِ المشهد الأَخير هذا، لتوحي ببؤسٍ مقيم، ثم تخرجُ من القاعة، وقد حطَّ عليك سؤالٌ عما إِذا كان في مقدور الإِنسان أَنْ يتغلبَ على مصائرَ قاسيةٍ وضاغطةٍ عليه!

Email