قبل انتخابات تونس

ت + ت - الحجم الطبيعي

أَزيدُ من تسعةِ شهور مضت على خلعِ زين العابدين بن علي في تونس، في الثورة التي فاجأَتنا باشتعالِها، ثم بسلاستها ونجاحِها، فشحنت المصريين في اندفاعةٍ إِلى ثورةٍ استثنائيةٍ أَيضاً، في تفاصيلِها ومسارِها.

ومع توالي أَحداث ثوراتِ ليبيا واليمن وسوريا، وهبّاتٍ شبابيةٍ إِصلاحيّةٍ واحتجاجيّةٍ في بلدانٍ عربية أُخرى، ابتعدت تونس عن شواغِلنا، حين انصرفت عيونُنا، في المشرق والخليج، عن جدل كثيرٍ صار هناك، وعن مخاوفَ شاعت على الثورة، وتوتراتٍ أمنيةٍ غير قليلة، ومناوشاتٍ، حادّةٍ أَحياناً، بين قوى وأَحزابٍ وتكتلات قديمةٍ وأُخرى صاعدة.

وجعلتنا الأَضواءُ المصرية والليبية والسورية واليمنية، نغفلُ عن تفاصيل شديدةِ الأَهمية، وبعضُها مقلق، أَثناء انعطافةِ تونس الانتقالية نحو تحقيقِ أَشواقِها في الديمقراطيةِ والمدنيّةِ والحداثةِ السياسيةِ والعدالةِ الاجتماعية.

ونظنُّه الإِعلام الشغوفُ بالهدم أَكثر من البناء، وكذا كاميراتُه المولعةُ بالجموعِ والحشودِ والاعتصاماتِ والمليونياتِ، وبالمسلحين والدباباتِ والرصاص أيضاً، في الميادين والشوارع والصحارى والمدن والزواريب، نظنُّهما تمكنا من حرفِ مداركِنا عن تونس، وعن صخبٍ، شائقٍ بعضُه ربما، جرى فيها في الشهورِ الماضية، إِذ يذهب التونسيون بعد 17 يوماً إِلى صناديق الاقتراع، لانتخاب أَعضاء المجلس التأسيسي الذي سيضع دستوراً جديداً لبلدِهم، فهذه مناسبةٌ مستجدّةٌ للتملّي في راهنِ تونس، وللتفكّر في مسارِها المرتقب نحو بناءِ جمهوريَّتِها الثانية.

وأَنْ نعرفَ أَنَّ 1500 لائحة تضم 11 أَلف مرشح، بينها 800 تمثل أَحزاباً وبقيتُها لمستقلين، تتنافسُ في 27 دائرة انتخابية على 217 مقعداً، منقوصاً منها 19 مقعدا للجاليات التونسية في الخارج. إِذا عرفنا هذه الأَرقام التي تُؤشِّر إِلى عشراتِ التشكيلاتِ والتكويناتِ السياسيّةِ والحزبية، الجديدةِ والقديمة، فإِننا نكون أَمام مشهدٍ يُغري بمحاولةِ استكشافِ كل ضجيجِه.

وفي البال قول رئيسة بعثةِ الاتحاد الأوروبي لمراقبةِ الانتخابات، إِنَّ تنظيم هذه الانتخابات معقد، وهي تحتاجُ إِلى شروحاتٍ كثيرة للجمهور، فالدورُ الموكلُ للمجلسِ التأسيسيِّ غامضٌ بعض الشيء لأَغلبية التونسيين، وسيذهب كثيرون منهم إِلى صناديق الاقتراع للمرة الأولى محتارين، وليس يسيراً عليهم أَن يقعوا على الفروق بين هذه اللائحة وتلك. وكنا قد طالعنا أَنَّ 50 حزباً وفاعليات سياسية ومدنية، اقترحت إِجراءَ استفتاءٍ شعبي على صلاحيات المجلس، بموازاة الاقتراعِ الخاص بانتخابِه، الأَمر الذي قابلته قوىً وازنة، أَهمها حركة النهضة الإسلامية، بالرفض واعتبارِه انقلاباً على التوافق الوطني.

نُتفٌ إخباريةٌ تنقل من تونس ما يُؤشِّرُ إِلى أَنَّ منسوبَ التفاؤل هناك بشأنِ مستقبلٍ واعدٍ وأَفضل يتناقص، فيما يتزايدُ السلبيُّ وغيرُ المطمئن. وتنقل أُخرى عن شبانٍ ناشطين يقينَهم أَنَّ بلدهم بات يحتاجُ إِلى ثورةٍ تصحيحيّة (ليست كما السورية إِياها بالطبع)، طالما أَنَّ الجهاز الأَمنيَّ لم تجرِ إِعادة تفكيكِه وتركيبِه.

وأَنَّ من يتقاسمون السلطة الراهنة عناصرُ غير قليلةٍ من النظام السابق، وبعض أَحزابِ المعارضة التي كانت قانونية مع شخصياتٍ في المجتمع المدني، ولا مطرحَ بينهم للشبابِ والتمثيلاتِ الاجتماعية التي نهضت بالثورة. وإِذ يَشيعُ أَنَّ الكهولَ سيسيطرون على معظم مقاعد المجلس المرتقب، فسينشأُ لدى متابعِ مثلِ هذه الانطباعات عن بعد، شعورٌ بالارتباك .

وبعض الحيرة، فيما كانت عظيمةً بهجتُه في انتصارِ ثورة تونس، بل في مباغتتها إِيّانا كلنا. ويبقى مأمولاً في حدث انتخاب المجلس التأسيسي، أَنْ يوفر إِطلالةً أَكثر اقتراباً من المشهد العام هناك، فلا يكتفي المرءُ بقراءة الكئيبِ من الأَخبار عن بطالةٍ تزيد وتراجعِ عائدات السياحة وسخطٍ بين شرائحَ اجتماعيةٍ واسعةٍ، وبحث مضنٍ عن إِصلاحاتٍ مفتقدةٍ في هيكليات الأَداءِ الانمائيِّ في الأَطراف والهوامش، ومنها مدينة محمد البوعزيزي، سيدي بوزيد، والتي قرأنا، والله أَعلم، أَن 62% من ناسِها لا يثقون بأَنَّ الثورة نجحت. وقرأْنا، قبل ذلك وبعده، أَنَّ نصفَ ثورةٍ ونصفَ انقلاب اجتمعا في المفاجأة التونسية.. هل صحيحٌ ذلك؟

Email