.. عن محمود عباس

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يستطيعُ الرئيس محمود عباس أَنْ يكون، أَو يصيرَ، زعيماً للفلسطينيين. ببساطةٍ، لأَنَّه لا يريد، ولم يَنزعْ يوماً إِلى هذا المنحى، ولأَنَّ سمتَهُ وطينتَهُ لا يُتيحان له ذلك.

ولأَنَّ الفلسطينيين ليسوا، حالياً، في مزاجِ البحثِ عن زعاماتٍ، وقد ظلَّلَ ياسر عرفات شغفَهم به زعيماً في مرحلةٍ مضت. يرى عباس أَنَّ في وسعِه أَنْ يكون رئيساً يُساهمُ، بالسياسةِ وحدَها، في أَن يحصلَ على حقِّ شعبِه بدولةٍ مستقلةٍ على الأَراضي المحتلة في 1967، وهذا يكفيه. ظلَّ وفياً، منذ انتسبَ في يفاعتِه إِلى "فتح"، لقناعتِه بأَنَّ الخيار السياسيَّ يمكنُ أَنْ يأْتي بهذه الحقوق.

لم يكن اسمُه لامعاً بين النجوم من رفاقِه المؤسسين للحركة، على الرغم من مجايلتِه لهم. كانوا مهجوسين بالكفاح المسلح والمواجهةِ العسكريةِ مع العدو الإسرائيلي، فيما كان منقطعاً للدرس ومراقبةِ العالم. في الأَثناء، كتبَ أُطروحةَ دكتوراه في جامعة موسكو، عن علاقةٍ خفيةٍ بين الصهيونية والنازية، يتذكَّرها غلاةٌ في اليمين الإِسرائيلي بين حين وآخر، للتدليلِ على أَنَّه ليس القائدَ الفلسطيني المطلوب لصناعةِ السلامِ مع "الدولة اليهودية".

ومع توالي التراجعاتِ العسكريةِ في مسارِ منظمة التحرير، والتي اضطرتها إِلى مغادرةِ بيروت إِلى شواطئِ تونس، ومع انعطافِ العالم إِلى تحولاتِه التي تسارعت في غير اتجاه النضال الفلسطيني المسلح، وفي معاكسةٍ حادّةٍ مع أَيِّ نزوعٍ ثوريٍّ، ومع اكتسابِ خطابِ البحثِ عن دولةٍ فلسطينيةٍ، وفق برنامجِ المنظمةِ المعلن في 1974، ممكناتٍ عقلانيةً وواقعيةً ليست قليلة، ومع تعاظمِ قدراتِ إِسرائيل في محيطِها .

وفي تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.. مع اطرادِ هذا كلِّه وغيرِه، ولاحقاً، مع قراءَةِ ياسر عرفات الوضعَ العربيَّ بعد غزو الكويت، سيّما مع استشهاد رفيقيه أَبو جهاد وأَبو إياد، عندها، كان لا بدَّ من أن يتصدر محمود عباس النخبة الفلسطينية القياديّة، سيما وقد بات ممكناً لأطروحاتِه المندفعةِ في اتجاه السلام والتفاوض أَنْ تجدَ بيئةً ومناخاً مواتيْن.

كان طبيعياً أَنْ يكون عباس بين ستة فلسطينيين طبخوا اتفاق أوسلو، وعرفوا به وحدهم، ولم يكن مفاجئاً أَنه الذي اختير لتوقيعِ الاتفاق، بيدِه اليسرى، في حديقةِ البيت الأَبيض. قال يومَها إِنَّ الفلسطينيين لن يأخذوا من إِسرائيل غير ما ستُعطيهم إِياه، وظلت هذه قناعتُه التي رأَى أَنَّ هجوماً سلمياً على إِسرائيل سيُعزِّزها.

وبالاعتمادِ على مقاديرَ من إِسنادٍ أَميركي، يُمكن أَن يأتي للفلسطينيين بما ستُعطيه إِسرائيل من حقوقٍ لهم. اعتنقَ هذا الخيار، وعارض عسكرةً الانتفاضة، لأَنها ستأخذُ "مسار أوسلو" إلى الوراء (وهذا ما وقع بالمناسبة).

واختلف مع عرفات في موازاةِ التفاوض مع المقاومة، وخلا كتابُه عن الطريق إلى اتفاق أوسلو، من مفردةِ المقاومة بالمطلق. لم يثبت، في تلك الغضون وبعدها، أَنَّ محمود عباس فرَّطَ في حقِّ فلسطينيٍّ في كل المفاوضات والمداولات مع الإسرائيليين. في أواخر زمن عرفات، غامر وأَخطأَ كثيراً، وكان واهماً في حسبانِه إِهداءَه إِيهود أُولمرت وتسيبي ليفني علبتي بقلاوة من دمشق، سيجعلانهما يقتنعان بالمبادرة العربية للسلام. لم يوقِّع على اتفاقٍ أو وثيقة فيها تنازل عن حق فلسطيني.

ولهذا كان أَلمه كبيراً حين نُعت إِبّان كان رئيساً للوزراء بأَنَّه قرضاي فلسطين، وعندما تمَّ تشنيعٌ قاسٍ عليه اتهمه بسحب تقرير غولدستون بشأْن جرائم الحربِ الإسرائيلية في غزة، من مداولات لجنة الأُمم المتحدة لحقوق الإِنسان.

مناسبةُ إِيجاز أَرشيفِ محمود عباس هنا، خطابُه أَمام الجمعية العامة للأُمم المتحدة الأُسبوع الماضي، والذي فاجأَتنا جودتُه وقيمتُه، جاءَ على النكبة والأَسرى والشهداءِ وجرائم إِسرائيل، ونقل ملعبَ الاشتباك السياسيِّ إِلى الأمم المتحدة، وابتعد عن أَميركا.. هذه انعطافةٌ جذريةٌ في مسار عباس، وإِنْ ظلَّ على مسافتِه إِياها من المقاومة. لنراقب، إِذن، ما يليها، باهتمامٍ واحترامٍ واجبيْن.

 

Email