"كامب ديفيد" غير المقدَّسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بديهيٌّ أَنَّ اتفاقيةَ كامب ديفيد ليست كتاباً سماوياً منزلاً، فلا غضاضةَ في القول إِنها ليست مقدَّسة، ولم يقترفْ رئيس الوزراء المصري، عصام شرف، أَمراً إِدّاً حين جهر بهذه البديهية.

 لا ترى إِسرائيلُ الأَمر كذلك، أُصيبت بهلعٍ وذعرٍ غزيريْن، على ما كتبت "ديلي تلغراف"، فاستدعت سفيرَ القاهرة لديها، واستوضحتْه، لأَنَّ خيالاتِ العصابةِ الحاكمةِ فيها لا تتصوَّر أَنْ يتعاملَ المسؤولُ المصريُّ مع تلك الاتفاقية بغير القداسةِ التي تتوهَّمها مُؤَكَّدةً، أَيْ بعدم الاقتراب من نصوصِها، علماً أَنَّ بنداً فيها يُجيزُ، باتفاق طرفيْها، التعديلَ والتغييرَ اللذيْن طرحَهما شرف احتمالاً وارداً.

يعرفُ أَيُّ موظفٍ صغيرٍ في وزارة الخارجية الإِسرائيلية ذلك، لكنَّ المتغيّر المصريَّ، والمتواصلةُ فصولُه في غيرِ شأن، ومنها العلاقة مع إِسرائيل، يجعلهم في تل أَبيب يتحسَّبون مما قد يعقبُ قولةَ شرف، ومما ستذهبُ إِليه مراجعاتُ المصريين معاهدةَ السلام و"كامب ديفيد"، وغيرِهما من تعاقداتٍ، أَخذت بلدَهم إِلى مطارحَ لا تليقُ به، وخياراتٍ موجعةٍ لكل مصري وعربي.

ونظنُّ أَنَّ مطبخَ صناعة القرار في إِسرائيل يُتابعُ نقاشَ النخب وتكتلات المجتمع المدني والتعبيرات الشعبية والجماهيرية في مصر، بشأْن وجوبِ أَنْ تتغيَّر الصلة بإِسرائيل، فلا تبقى على حالِها المخزي إِبّان حسني مبارك، وقد كان هذا الرجل رئيساً عليهم وكنزاً استراتيجياً لإسرائيل في وقتٍ واحد، على ما قال أَحد أَصدقائِه من قتلةِ الأَسرى المصريين.

قال حمدين صبّاحي، الوجه الناصري المعروف، إِنه يرى طرحَ بقاءِ معاهدة السلام أَو إلغاءها في استفتاءٍ شعبي. وقال عمرو موسى، وهو ذو مراسٍ نظيفٍ في مقارعةِ تل أَبيب سياسياً، والطامحُ إِلى استعادةِ مصر مكانتََها التي تستحقُّ في محيطِها وفي العالم، إِنَ على إِسرائيل أَنْ تفهمَ أَنَّه تجبُ مراجعة قيودِ معاهدة السلام على مصر.

وأَنْ توقنَ أَنها أَخطأَت كثيراً عندما تخيَّلَت أَنَّ لا علاقة لثورة يناير المصرية بفلسطين. وإِذا أضيفت قولتا المرشحيْن المحتمليْن لانتخابات رئاسة مصر، وأُخرياتٌ مثيلاتٌ لهما، إِلى دعاوى في محكمةِ القضاءِ الإداري طالبت بإلغاءِ معاهدة السلام، فذلك يُجيزُ القولَ إِنَّ مراجعةَ مسار العلاقة مع إِسرائيل تتقدَّم أَولويات المصريين، سيّما مع تعافي بلدِهم من سوءاتِ أَربعين عاماً مضت.

ومع إِفاقتِها من رقدتِها، ومع اندفاعةِ مسارِها الديمقراطيِّ الناضج، والذي سيأْخذُها إِلى آفاقٍ متوخّاة، عنوانُها الأَول قدرة مصر على أَن تكونَ متمدِّنةً ومتطورةً في مسارِ تنميةٍ مطّرد، يضعُها بين دول العالم الأَكثر نهوضاً في الإِنتاج العلميِّ والمعرفيِّ والإِنجاز الصناعيِّ والاقتصادي.

لم تشفَ مصرُ بعدُ من الوطأَة الثقيلةِ للمنظورِ المهيْمن منذ سنواتٍ على قرارِها في السياسةِ الخارجية، وهو أَولوية الحفاظ على التحالفِ مع الولايات المتحدّة، تبدّى هذا في عدم اتخاذِ المجلسِ العسكريِّ الحاكم أَيَّ إِجراءٍ قويٍّ تجاه إِسرائيل، بعدما أَقدمَ عسكريون من جيشِها على قتل ضابطٍ وخمسةِ جنودٍ مصريين في موقعٍ حدودي. وكان في الوسعِ أَن تتم المبادرةُ، في حينِه، لتخفيضِ مستوى الوجود الدبلوماسيِّ الإسرائيليِّ في القاهرة، واستدعاءِ السفير المصري من تل أبيب، ومراجعةِ اتفاقيّةِ بيعِ الغاز إلى الدولة العبرية.

ورهن صلاتٍ تجاريةٍ وسياسيةٍ باعتذارٍ صريح، وغيرها من إِجراءاتٍ كانت ستساعد، ما أَمكن، في تهدئةِ بعض الغضبِ المصريِّ الشعبيِّ على الفعلةِ الإِسرائيليةِ الشنيعة. ولعل هذا الغضبَ وجدَ بعضَ تصريفٍ له في الهبَّةِ الجسورةِ باقتحام السفارة الإسرائيلية (ثلاثة طوابق في عمارة)، وقبل ذلك، تحطيم السياج الذي بُنيَ إِثر جريمة قتل الضابط والجنود...

كانت هذه واقعةً استثنائية، تُنذر إِسرائيل بأَنَّ مراجعةَ المصريين علاقةَ دولتِهم بها ستروحُ إِلى أَبعدَ من تصحيح "كامب ديفيد"، فقرأَت الهجومَ الشعبيَّ، الباهر، على سفارتِها على هذا النحو، فكان غيرَ مفاجئٍ أَنْ يُصيبَها جزعٌ مما قاله عصام شرف من بديهيِّ الكلام.

Email