في مسألة التدخل الخارجي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أَياً كانت أَمزجتُنا وأَهواؤنا السياسية، يبقى جارحاً لنرجسيَّتِنا العربية (أَو العروبية؟)، أَنْ يهتفَ متظاهرون سوريون في حمص مطالبين بعون حلف «الناتو»، لحمايتهم من الرصاص اليوميِّ الذي يتعرضون إليه. ولم يكن طيِّباً على نفوسِنا أَنْ يحتاجَ الليبيون في ثورتِهم على جور القذافي، إِلى مساعدة هذا الحلف العسكري في إِنقاذِهم من توحش العقيد الذي خيَّرَهم بين أَنْ يقتلهم أَو يحكمهم. ويذهبُ بعضُنا في عدم استساغةِ حركةِ الاحتجاجِ السوريةِ الشعبيّة الواسعة، واعتبارهم لها مؤامَرة، إِلى أَنَّ غرض من يقفون خلفها استدعاءُ تدخلٍ عسكريٍّ خارجيٍّ يضعُ يديه على سوريا.

وفي غضون كلامٍ مثل هذا، وفي أَثناءِ حميّةٍ وغيرةٍ، يجهر بهما غيرُ قليلين منا، على ليبيا التي يحتلها «الناتو» الآن، بتعبيرِهم، يُؤتى على الحالتين التونسية والمصرية، واللتين جرى فيهما خلعُ زين العابدين بن علي وحسني مبارك، من دون أَي صنفٍ من التدخل الخارجي، ما يعني، بحسبِ هؤلاءِ، أَن ما قام به التونسيون والمصريون هو الأَجدى أَن يتمثلَّه السوريون، وكان الأَولى بالليبيين أَنْ يختاروه.

ولأَنَّ وقائع التاريخ ومتغيّراتِ الأُمم والدول والشعوب، لا تتحقَّقُ بالضرورة بحسب الرغبات والأَهواءِ والميول والتمنيات، وبحسبِ ما نُحبِّذه هنا ولا نودُّه هناك، ولأَن تنويعاتِ السلطة في البلاد العربية، وكذا تكويناتِ مجتمعاتِنا، على مقادير من المغايرة والاختلافِ في ما بينها، لذلك كله وغيرِه، يصير الأَجدى بإِمعان النظر فيه ،أَنَّ انتصار ثورة الليبيين لم يكن ممكناً من دون مُساهمةِ «الناتو»، والدورِ المحمود الذي قامت به الإِمارات وقطر، وكذا الضغط السياسي الكبير الذي بادر إِليه المجتمعُ الدولي. يتمُّ التأكيدُ هنا على البديهيّةِّ هذه، مع التشديدِ الواجبِ على أَنَّ الثوار هم من تمكَّنوا وحدَهم خلال شهرٍ من تحريرِ الشريط الليبي من بنغازي إِلى طبرق، وقد قاتلوا، ومعظمهم متطوعون، أَسابيعَ من دون أَيِّ إِسنادٍ عسكريٍّ خارجي.

ويُؤتى على هذا الأَمر، هنا، للتنبيهِ إِلى خطورةِ زعمٍ صار يشيعُ وينسبُ انتصارَ ليبيا إِلى «الناتو»، غيرِ المنسيِّ فضُله في منعِ مجزرةٍ هدَّدَ القذافي باقترافِها. والاختلافُ الأَهمُّ بين مسأَلتي ليبيا وسوريا معاً، ومصر وتونس معاً، أَنَّ صلة السلطةِ السياسيةِ مع المؤسسةِ العسكريّةِ في البلدين الأَخيريْن، مختلفةٌ تماماً عما هي عليه في الأَوليْن. كما أَن خصائصَ اجتماعيةً وتاريخيةَ وتكوينيةً في سوريا وليبيا، لا تُمكِّن شعبي هذين البلدين من تحقيقِ ما يتطلعان إِليه بالكيفيّةِ التونسية والمصرية.

جاءَ «الناتو» إلى لييبا، بطلب تدخلٍ خارجيٍ أَشهرَه الليبيون واحتاجوه، وأَوصى به مجلسِ جامعةِ الدول العربية، وصدر بشأْنِه قراران آخران من مجلس الأمن الدولي، ما يعني اختلافاً شديدَ الوضوح عن الحالةِ العراقيةِ التي يُسارع بعضُنا إِلى التذكير بها، لترويجِ شؤم مستنكرٍ بشأْن ليبيا ومستقبلِها الذي سيكون زاهراً بإذن الله، سيّما إِذا اندفع كل العرب لإِعانة هذا البلد الذي سيخوض معركةَ تحديثٍ وتمدينٍ وبناءٍ صعبةٍ وطويلة.

وربما يحسنُ أَنْ يُؤتى على مثالِ مسلمي يوغسلافيا السابقةِ في كوسوفو، بدلاً من استدعاءِ المثال العراقي المقيت، إِذ لم يكن ممكناً إِنقاذ أُولئك من توحش الصربِ، ومن حربِ الإبادة العرقيةِ التي تعرَّضوا لها، من دون المساهمةِ العسكريةِ الحيويةِ التي بادر إِليها الغرب.

وإِذا عنّ لبعضنا أَنْ يُشهر قدّامنا، نحن المنحازين إِلى أَولوية وقفِ إِزهاق الأَرواح على كل كلامٍ آخر، بديهيّةَ المصالح التي تحتكمُ إِليها الدول حين تُغامرُ بمثل هكذا تدخّل، فالبديهيّةُ المستجدّة في عالمٍ متسارعِ التجدّد والتداخل، هي أَنَّ سيولةَ مصالح الأُمم والشعوب تتيحُ تلاقيها وتقاطعَها عند نقاطٍ معينة، واصطدامَها عند أُخرى. ومن هذا البابِ وليس غيره، تصيرُ التثنيةُ على إِسهام «الناتو» في ليبيا في محلها، وهو إِسهامٌ لا نشتهيه في سوريا، وإِن اضطرَّ إِلى الجهرِ بطلبِه سوريون مظلومون في حمص.

 

Email