«الناتو» وليبيا .. والمؤامرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروج زملاءُ معلقون كثيرون، بشأْنِ التغيير الحادثِ في ليبيا، إِلى أَنَّ مؤامرةً تتم في هذا البلد، تمَّ التخطيطُ لها باستدعاءِ حلف الأَطلسي «الناتو» في العمليات العسكرية التي تشهدها منذ ستةِ شهور، وتذهب الحميّةُ والغيرةُ على ليبيا ببعضٍ غيرِ قليلٍ منهم إِلى القول إِنَّ احتلالاً بدأَ هناك، وأَنَّ مقاومةً له ستنشطُ لاحقاً. وثمَّةَ تحسبٌ غزيزٌ لدى أُولئك الزملاء من قياداتِ المجلس الانتقالي وأَعضائه، يعضهم في خانةٍ غيرِ محمودة، تنزِعُ عنهم الوطنيَّة بدعوى استعانتِهم بالأَجنبي، ما يجعلهم مرتَهنين للغرب وخياراتِه في بلدهم الذي دخل في طورِ استغلال هذا الغرب ثرواتِه ونفطه.

وكان يمكنُ التعامي عن سماعِ هذا الكلام ومطالعتِه، غير أَنَّ شيوعَه، واعتبار أنَّ نقيصةً استعماريةً جديدةً تنبغي الخشيةُ منها في غير مطرحٍ عربي، في سوريا مثلاً. ويحدُث أَنْ يتوازى الحديثُ عن الحالةِ الليبيةِ هذه باقترانِها مع ما يُفترض أَنها مثيلةٌ لها في العراق، وإِنْ بكيفيةٍ مغايرة. وأَولُ الكلام في القصّةِ كلها أَنه لولا التدخل العسكري الأجنبي لأَحدث معمر القذافي فظاعاتٍ مريعةً في الشعب الليبي، أَشهرَ تهديداً بها بعد أَول مسيرةٍ احتجاجيةٍ في بنغازي ضد سوءاتِه، لما أَعلنَ عن تحرك الجيش والدبابات ضد «الجرذان» وجماعات بن لادن والظواهري، ونظنُّ أَنَّ النقاش، وكلَّ خلافٍ واتفاقٍ في أَثنائِه، لن يكونَ ممكناً من دون التأسيسِ على البديهية هذه.

يصدرُ ذلك الكلام عن شغفِ أَصحابِه بخرافيّةِ انقطاعِ العالم للتآمر ضدّنا، نحن العرب والمسلمين، ويوحي بأَنَّ القذافي كان نحريراً في التصدّي لمخططات الغرب، وكان يعملُ لإِبعادِ ليبيا عن أَطماع هذا الغرب، ما جعل الأَخير يبتدعُ الثورةَ ضده، والتهويلَ بشأنِ جرائِم الإِبادة التي اقترفها، ولوح باستمرارها ضد مناوئي عبقريّتِه الكونية.

يُساقُ ذلك الكلام عن مؤامرة «الناتو»، فيما ساركوزي وتوني بلير وبيرلسكوني وكوندوليزا رايس زاروا عقيد الجماهيرية في خيامِه، بعد أَنْ أَباح ليبيا للشركات الأَميركية والأوروبية والتركية، وبعد أَنْ نقل المواد والمعدات التقنية التي جمعَها، سنواتٍ، من أَجلِ مشروعٍ نوويٍّ، حلمَ به ذاتَ طورٍ من خرافاتِه، إِلى الولايات المتحدة من دون غيرِها، كما أَنه دفع من أَموالِ الشعب الليبي تعويضاتٍ مهولةً للأَميركيين والفرنسيين عن حماقاتِه التي ورَّطَ شعبَه بها.

وهذه وقائعُ من أَرشيفِه في الارتماءِ أَمام الغرب الطمّاع هذا، للقول إِنّ الباغية الطريد يسَّرَ لدولٍ أَعضاءِ في «الناتو» من إِمكانات ليبيا وأَموالها وثرواتِها ما تجعل الحلفَ حريصاً على نظامِه، مع صمتٍ واسعٍ على مباذِلِه وانتهاكاتِه وجرائِمه ضدَّ الشعب الليبي الذي ظلّ مأْسوراً حتى أَنقذتَه الثورةُ، الظافرةُ إِنْ شاءَ الله، وجعلت هذا المأْفون الذي توهَّمَ أَنه ملك ملوك إِفريقيا يفرُّ من «بيت الصمود» من عدالةٍ يشتاقُ إِليها الليبيون منذ عقود.

أَنْ يُقال إِنَّ الغربَ سيبحثُ في ليبيا عن مصالِحه، وسيطالِبُ النخبةَ التي ستحكم هذا البلد بدفع فواتير معينة، فذلك من تحصيلِ الحاصل، بل يحسنُ أَنْ يكون درساً لكل نظامِ حكمٍ، وهو البحثُ عن المصالحِ الوطنية. لذلك، يصيرُ الأَجدى من الكلام عن مؤامرةِ «الناتو» توجيهُ الأَبصار إِلى ما سيقومُ به الليبيون من أَجلِ النهوضِ ببلدهم، وانتشالِه مما تراكمَ فيها من تصحّرٍ سياسيٍّ وبؤسٍ تنموي كبير.

وإِذا عنَّ للغربِ أَنْ يتآمرَ على ليبيا، عبر «الناتو» وغيره، فليفعل، لكن، ماذا سيفعل الليبيون، وماذا سيُقدِّمه العربُ لهم. لا يلتفتُ الإِعلامُ السوريُّ الحكوميُّ، مثلاً، إِلى هذا الأَمر الأَوجب من غيره، حين يشيعُ أَخباراً عن «فوضى الناتو» في ليبيا، ويُبرزُ رسائلَ القذافي الإذاعية في حض الليبيين على «المقاومة»، وكأَنَّ هذا الإعلام يٌحسِّسُ على بطحةٍ فوق رأْس أَحدٍ في النظام الذي يُوجهه، بدليل أَنَّ دمشق لم تعترف بالمجلس الانتقالي بعد. يا للنظافةِ والطهرانية الوطنية (!)

Email