"مكعب روبيك" السوري

ت + ت - الحجم الطبيعي

نادرة هي، أو ربما معدومة، الحالات التاريخية التي وقفت فيها جميع سلطات الدولة ومؤسساتها وأذرعها، أياً كانت، بقضها وقضيضها ضد شعبها في معركةٍ معلنة لا هوادة فيها يتجلى فيها مفهوما النصر والهزيمة، وما يترتب عليهما من آثار، بمعانٍ واضحة لا لبس فيها. لم تشهد أنظمة تونس ومصر واليمن، وحتى ليبيا عقيد الفاتح، ذلك التكاتف المتكامل بين أركان الحكم حينما اندلعت الثورات ضدها.

كما نراه اليوم ظاهراً في سوريا، حيث يتماهى العسكري النظامي مع الميليشيوي، والعنصر الأمني مع الدبلوماسي والمثقف؛ في نموذجٍ مستنسخ تفوق على الأصل المتمثل في حكمي نيكولاي تشاوشيسكو، الذي وقف جيشه ضده في نهاية المطاف، وإريك هونيكر، المطاح به حزبياً؛ علماً أن جهاز الـ«سيكيوريتات» الروماني أو «أمن الدولة» يعتبر إلى جانب شقيقه «ستازي» في ألمانيا الشرقية، الأب الروحي للمنظومة الاستخباراتية السورية المؤسسة منذ 1970، من حيث التكتيكات السياسية والممارسات.

يكمن مفتاح حل معضلة عدم حدوث انشقاقات على مستوى رفيع في أجهزة الدولة السورية، حتى اللحظة، في فهم هاجسي «وحدة المصير» و«مآلات الحكم» اللذين يؤرقان المسؤولين السوريين على اختلاف هوياتهم، فالطبيعة التي جبلت عليها التركيبة الحاكمة حالياً، تشبه إلى حدٍ بعيد اللغز الميكانيكي المسمى «مكعب روبيك» الملون، الذي يتوجب لفكه أن يكون كل وجه من وجوهه الستة بلونٍ واحد، فيما تمكن آلية محورية من تدوير كل واجهة بشكلٍ مستقل، ما يعني إمكانية خلط ترتيب الألوان.

ولأن المشهد السوري اصطبغ باللون الأحمر منذ عقود، فقد الوطن مغزاه وأسباب وجوده، لأنه في اللحظة التي تلتبس فيها معاني الأمن، تمسك أنماط مثل زعيم «الخمير الحمر» في كمبوديا بول بوت، وقائد «الجبهة الثورية المتحدة» في سيراليون فودي سنكوه، ورئيس «الإنترهاموي» في رواندا روبرت كاجوغا، بتلابيب الحل والعقد ليس فقط في الداخل، بل وفي الإقليم والمحيط المجاور أيضاً.

وفي رواندا نفسها، حيث نجح البشر بامتياز في شيطنة أنفسهم، تقليد قد ينفع متبع لشفاء جروحٍ مشابهة، خلفتها الصراعات والمجازر يدعى «غاشاشا»، وهي محاكم شعبية تفاعلية في الهواء الطلق، هدفها تحقيق العدالة وتسريع محاكمة الضالعين في الجرائم ضد الإنسانية؛ والأهم من ذلك أن يواجه الضحية جلاده علناً وجهاً لوجه، ليجادله ويشكوه بحضور العامة الذين يستمعون إلى دفاع المتهم وتظلم المدعي.

ومن المؤكد أن سوريا، وبعد هذه الحقبة من العنف، بحاجة إلى «غاشاشات»، بالجمع، لتسمع البعض في الداخل والخارج قصص عذاباتٍ تمتد من نهر جغجغ في القامشلي الكردية، إلى سهول درعا الحورانية، علهم يدركون أن المعركة ضد الشعوب خاسرة دائماً.

إذاً، لا يزال المشهد في سوريا كافكاوياً بامتياز. فحينما نهض الشعب السوري من سباته في الـ15 من مارس الماضي، لم يكن ليتخيل أنه بهبته تلك سوف يخط رواية كابوسية غارقة في السواد، لا تزال فصولها تروي حكاية شعبٍ يأبى كل أسبوع، بل وكل يوم، إلا أن يحث الخطى نحو «الاستقلال الثاني» بمعمودية الدم الأبدية.

وفي المقابل، هناك في الظلمات، من أفاق من أحلامه ليجد نفسه وقد تحول إلى ذلك المخلوق الذي تحدث عنه فرانز كافكا في روايته الأشهر، فتلاشت أهميته بالنسبة إلى محيطه والمقربين منه لأنه، في النسخة السورية، أضحى تحوله ذاك حقيقةً مكشوفة.

Email