كلام الصمت

ت + ت - الحجم الطبيعي

إعلان موت أنسي الحاج يبعث في الذاكرة إحدى أكثر المراحل ثراء وخصوبة. لما أقبلنا على قراءة الشاعر والصحافي اللبناني، كانت بيروت بؤرتنا العربية الأكثر جاذبية وفتنة، الخرطوم كانت وقتئذٍ منفتحة على كل المدارات، كنا جيلاً أكثر إقبالاً على الالتهام والهضم.

أنسي الحاج، أحد من أشعلوا فينا فتيلة التمرد على سلطة التاريخ والجغرافيا والمسلمات المتداولة. هو أحد من حرضونا على اختراق المألوف وكسر الرتابة وحرق الأصنام. بكل ذلك الانفعال انكببنا على «كلمات» أنسي الحاج، ثم توغلنا في إنتاجه نثراً وشعراً ومسرحاً، لنكتشف الأبعاد الإنسانية والإبداعية في كاتب «منفستو» قصيدة النثر في «لن»، على عتبة ستينات القرن الأخير. مع كل ديوان نكتشف أحد فرسان الحداثة المعاصرين في معركة الحياة.

أنسي الحاج أحد من علمني الحرص على أناقة الديباجة بانتقاء الكلمات وتقصدها، مع الحرص على البناء المنطقي المتماسك.

أنسي الحاج بين ثلة من المبدعين رحلوا وتركوا إرثاً جمالياً من الإبداع، يزداد بريقاً كلما عُرض على نار النقد. ربما لم يبلور الحاج مدرسة فكرية متكاملة، لكنه يظل صرخة إبداعية يتردد صداها من الماء إلى الماء. قيمة الحاج تكمن في وجده الصوفي تجاه الحياة والكتابة. إرث أنسي الحاج الشعري مكتنز بالحب والجمال والحداثة: «لنا حياة وليس لنا غيرها، وإذا لم نضطرب بالحب فمتى نصنع ذلك؟».

بهذه الروح الصوفية ولج الحاج مختبر اللغة ومدونة الشعر وبلاط الصحافة. بالروح ذاتها نهض ضد المكرور والسكون والركود والضجر والخوف والطائفية.

بالرؤى الشفافة والجريئة، ترك لنا أنسي الحاج ستة من المؤلفات الشعرية، وسفراً من المقالات الصحافية عبر «الحياة» و«النهار» و«الأخبار». في كل ذلك يطرح الشاعر الراحل كلمة أبدية في الحب والكتابة «ما من فرق بين الشعر والحب إلا أن الأول كلام الصمت والآخر فعله». مع رحيل أنسي الحاج أظل أردد «يداك الخفيتان تفتحان أبوابي الخفية».

Email