بخار الإجازة

ت + ت - الحجم الطبيعي

عبء ثقيل تنوء به الذاكرة وأنت عائد من الخرطوم. المشهد السوداني العام مثقل برمته بفوضى عدم الإحساس. احتقان سياسي على شفا نفق ملغوم. أزمة اقتصادية ضاغطة، تستحكم مع غروب كل يوم وشروق شمس كل صباح.

التغيير الوزاري الأخير أفرز أضعف إدارة حكومية استولدها نظام الإنقاذ. على رأي إمام الأنصار أتوا إلينا بوزراء «يتعلمون الحلاقة في رؤوس اليتامى». بعد خروج غازي العتباني وتخريج علي عثمان، فقدت دولة الإنقاذ «المخ السياسي».

الآلية عاجزة حتى عن التبرير. فوضى التصريحات تطفو على فوضى الأزمات اليومية. مهمة الإحصاء معطوبة أمام تكدس الأيتام والثكالى والمشردين، والخارجين بعاهات من جبهات القتال المستعرة في جنبات الوطن.

فوضى حروب الشرق والغرب والجنوب تستنزف الإمكانات الشحيحة، وتلفظ بسخاء أسراب الضحايا من قتلى ومشردين وفقراء، على هامش فوضى المدائن الغبراء.

النظام المنهك يقتات من فتات أرصدة الشعب، ومن فوضى المعارضة المبعثرة المتنازعة على عظمة قيادة وهمية.

الشارع مكتظ بفوضى السيارات المتزاحمة بالمناكب الحديدية المتآكلة، التي تتجاهل عمداً الإشارات الحمراء مع سبق الإصرار. الطرق تئن بفوضى الزبالة حداً لم يجد والي الخرطوم بداً من الاعتراف بتدهور البيئة. فوضى البنايات تشوه مشهد المدينة، وتنتهك خارطتها وآداب الجيرة وأعراف التقاليد الأصيلة. فوضى التكالب والجشع المستشري، أغرقت القوانين والأخلاقيات الموروثة. بائعات الشاي بذرن الرماد على الخرطوم القديمة وينشرن مظلة الترييف.

فوضى الإعلام مرايا مشروخة، تعكس فوضى المشهد العام صحف تتناسل من رحم الحزب الحاكم وتنمو في حضنه.

هناك دوماً فسحة للأمل وفرصة للرهان. شرطة المرور تنتزع التقدير، ربما لأنها الشاهد الوحيد على بقاء هيبة الدولة.

عدد من الشبان والشابات يتمنطقون الحرص على بقاء جذوة الوعي ومنابر التنوير. ندوة هنا وأمسية ثقافية هناك ومعرض تشكيلي. أقلام صحافية ترفض الترويض والتزييف.

كافيه يضج بالحيوية والعصافير ذوات الريش الملون، كأنها تهبط الشجيرات الوريقة من خارج المدينة.

هذا مشهد استثنائي ينعش ذاكرتك التي لم يصبها الصدأ بعد. يوماً ما تنهض الخرطوم كما طائر الفينيق من الرماد.

Email