ذاكرة القلب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقال إننا لا نشعر بقيمة الأشياء إلا عندما نفقدها، دون أن نعرف إذا كانت هذه المقولة تتحدث فقط عن تلك الأشياء التي نألفها خلال حياتنا، فتصبح إحدى عاداتنا أو إحدى العلاقات اليومية التي نشعر أن وجودها أمر طبيعي، يشبه بديهية وجود مرؤوسك في العمل يومياً، أو زميلك الجالس بقربك وتعلم أنه لا بد وأنك ستلتقي به لا محالة، لأن هذا ما يحصل باستمرار ورتابة.

نعلم أيضاً أننا لا بد أن نفتقد هذه الأمور العادية إذا ما غابت يوماً، أو انتهت، ونشعر كم كانت مهمة رغم عدم وعينا بذلك، كغياب زميل قضيت معه سنوات في علاقة عمل عادية لم تصل حدود الصداقة، وبالكاد تعرف اسمه، إلا أن غيابه أثّر فيك وجعلك تفتقد "صباح الخير" منه، أو حتى غياب نبتة صغيرة، كبرت بعد أن اعتنيت بها بنفسك، وماتت مخلّفة وراءها فقداناً ولو بقدر يسير.

ماذا يحصل إذاً لو فقدنا أشخاصاً أغلى على قلوبنا من أن نتخيل غيابهم، أو تتصور عقولنا كيف يمكن لحياتنا أن تكون من دونهم؟ أشخاصاً تدفأ الأمكنة بوجودهم، وتشرق الشمس من بين أعينهم، وتسكن الأشياء حداداً لغيابهم، فلا تعود الحياة كما كانت على الإطلاق، مهما كابرنا، وحاولنا إعادة الأشياء كما كانت قبل أن يبعثرها رحيلهم..

يقول فاليري: "المقابر مملوءة بآلاف الأشخاص الذين لم تكن الدنيا تستغني عنهم في حياتهم"، فهل يعني أن زلزال غيابهم يبقى إلى الأبد ويتركنا معلقين بين الحياة والموت؟ أم أننا نشفى منه بعد شهور، أو ربما سنوات من الحنين وتحسس الأشياء رغبة في استعادة أدق التفاصيل!

ورغم علمنا أن المقابر، أو الأيام، والأمكنة البعيدة، لا تخفي من غابوا ولا تنتزعهم من ذاكرتنا أو قلوبنا، وإلا: فكيف تحملنا ذاكرتنا إليهم حتى بعد أن نشفى من ألم الصدمة، لمجرد مرورنا في مكان جمعنا بهم، أو مصادفة استنشاق رائحة عطرهم الحاضر أبداً في ذاكرة القلب!

 

أما قبل:

تغيب! ونصف العالم يلوكني، والنصف الآخر ينهش لحمي..

وأنا.. أتجرع النسيان وينبذني،

وتتشبث بي ذاكرةٌ حديد، تعيدك إليّ عنوة، كلما قررت نسيانك.

Email