الصين وأمريكا وكفة التعاون الراجحة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد عفا الزمن عن عقلية الحرب الباردة، ويفشل الرأي القائل بضرورة احتواء القوى الصاعدة في التعبير عن الدروس المستفادة من حربين عالميتين، دارت رحاهما لكبح تقدم قوتين وطنيتين صاعدتين (ألمانيا واليابان)، لكن منافسة اليوم تدور بين قوتين صاعدتين كل منهما بحجم قارة، وتمتلكان التكنولوجيات النووية وتكنولوجيات أخرى قادرة على إحداث قدر متزايد من الدمار.

أدرك الخبراء أن التحول الجهازي ينطوي على توازن بين طلب غير محدود وموارد محدودة، والحل إما الحرب التي من شأنها أن تعجل بدمار كوكب الأرض وزوال الجنس البشري، وإما السلام وبقاء الإنسان من خلال تكامل كل البلدان في نظام عالمي متوازن.

انخرطت الولايات المتحدة مع الصين بشكل مباشر، وقد جلب هذا فوائد بعيدة المدى، من المساعدة في إنهاء الحرب الباردة إلى المساهمة في التقدم في مكافحة تغير المناخ. في الوقت ذاته، ساعدت الديناميكية الاقتصادية في الصين، إلى جانب انخراطها العميق في الاقتصاد العالمي، في حفز النمو العالمي والحد من تداعيات صدمات مثل الأزمة المالية، التي اندلعت عام 2008.

في كتابه الكلاسيكي المنشور عام 1944 بعنوان «الطريق إلى العبودية»، حذر الاقتصادي والفيلسوف النمساوي فريدريش أوغست فون هايك من أن التخطيط المركزي، والملكية العامة من المحتم أن يقودا المجتمعات إلى المعاناة والقمع، بل وحتى الطغيان، في حين ستعمل الأسواق الحرة بطبيعة الحال على تعظيم الرفاهة العامة.

في ذات العام، قـدم المؤرخ الاقتصادي الأمريكي- المجري كارل بولاني في كتابه «التحول الأعظم»، صورة مختلفة تمام الاختلاف، زاعماً أن قوى السوق والمجتمع مشتبكة في صراع من نوع ما: حيث يستغل الرأسماليون المجتمع من خلال الأسواق الحرة، ويقاوم المجتمع من خلال التنظيم والسياسة.

بعد ما يقرب من الثمانين عاماً على صدور هذين الكتابين، لا تزال المناظرات حول وجهات نظر بولاني وهايك المتعارضة يتردد صداها في أروقة السلطة في بكين وواشنطن، بينما تبنى الغرب في الأساس نظام هايك الليبرالي القائم على الأسواق الحرة والديمقراطية، اتبعت الصين في عموم الأمر «التحول الأعظم»، الذي تناوله بولاني، لتصبح الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم (على أساس تعادل القوة الشرائية)، وتكاد تقضي على الفقر المدقع.

بطبيعة الحال، ما كان تحول الصين الأعظم ليصبح في حكم الممكن في غياب الانفتاح الاقتصادي والإصلاحات الموجهة نحو السوق. لعقود من الزمن، لعبت الولايات المتحدة دوراً بالغ الأهمية في تمكين وإدامة هذه العملية، وخاصة من خلال تهيئة الظروف التي سمحت بازدهار العولمة. كما عملت التكنولوجيا، والقوة العسكرية العاتية، والدبلوماسية الأمريكية على تعزيز الأمن العالمي ــ لا يُـنـكر إلا قِـلة من الناس عائد السلام المتمثل في إمكانية الحد من الفقر ــ في حين ساعد الدولار الأمريكي المستقر في تسهيل التبادل الدولي.

لم تكن الصين وحدها، التي شهدت تبلور القضايا التي طرحها بولاني. الواقع أن اقتصادات ناشئة كبرى مثل الهند وإندونيسيا والبرازيل تناضل في محاولة التغلب على العواقب، التي خلفتها إخفاقات السوق، مثل التفاوت في الدخل والثروة، والتلوث، وخسارة التنوع البيولوجي، والانحباس الحراري الكوكبي.

وفي حين تخلق السيطرة الحكومية المفرطة مشاكل خاصة بهاــ وهي النقطة التي اتفق علها هايك وبولاني ــ فإن أقل القليل من الناس قد يجادل في قدرة الدولة على الحد من انتهاكات السوق، والتصدي للعوامل الخارجية السلبية، وتلبية توقعات الناس بشأن الأمن والرخاء.

الواقع أن فشل الدولة في معالجة إخفاقات السوق وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، كما حذر بولاني، يُـفضي عادة إلى ردة فعل سياسية سلبية عنيفة. وقد يؤدي هذا إلى ضمور الدولة أو حتى انهيارها، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي، وعلى هذا، يبدو من الواضح أن قدرة الدولة لا تقل أهمية عن قدرة السوق.

السؤال الأكثر إثارة للجدال هو كيف يمكن ضبط سلوكيات السوق ومنع انتهاكات الدولة. تعمل الأنظمة المختلفة على إيجاد التوازن الذي يناسبها، فيركز نظام الحكم في الصين على تسليم نتائج جوهرية ملموسة لغالبية السكان من خلال آلية مساءلة ذات توجه إداري. من منظور غربي، يختلف هذا جوهرياً عن الديمقراطية الانتخابية، التي تؤكد القواعد القانونية والإجرائية والحقوق الفردية ــ وهي بالتالي غير مقبولة.

تقطع هذه الاختلافات شوطاً طويلاً نحو تفسير السبب وراء إثارة التحول الأعظم في الصين لمثل هذا القدر من الاستجابة السلبية من جانب القوى الغربية، التي تجنبت في السنوات الأخيرة المشاركة والتعاون الوثيق، لصالح المنافسة والمواجهة والاحتواء.

مكمن الخطر هنا يتمثل في تسبب استخدام وسائل الإعلام والتكنولوجيا والتمويل والتجارة، وغير ذلك من مجالات التعاون السابقة كسلاح في إشعال شرارة تصعيد حتمي للتوترات، مما يؤدي في النهاية إلى الحرب.

على نحو مماثل، كلما زاد القدر الذي توجهه الهند وغيرها من القوة الصاعدة من الاهتمام والموارد والقدرات نحو الأمن الوطني والدفاع، كلما قَـل ما يمكنها تكريسه للتنمية الاقتصادية المحلية والاندماج في الاقتصاد العالمي. هذا من شأنه أن يضعف العلاقات القائمة على السوق.

والتي قدمت الكثير لدعم السلام على مدار العقود العديدة الأخيرة، ولأن الصين والهند وإندونيسيا ربما تصبح بين أكبر خمسة اقتصادات في العالم بحلول عام 2050.

في حين تشكل حالياً 40 % من سكان العالم وما يقرب من 175 % من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي (مع تعادل القوة الشرائية)، فمن الأهمية بمكان أن يجري التفاوض على نظام جديد متعدد الأطراف لمنع اندلاع صراعات كبرى.

إن تجنب حالة مفرطة من انعدام الاستقرار داخل البلدان ــ والتشرذم بينها ــ أمر بالغ الأهمية لإيجاد مثل هذا التوازن المستقر بين القوى. لهذا السبب، تُـعَـد الدعوات المطالبة بتقرير المصير في أماكن مثل شينجيانغ وهونغ كونغ وتايوان منافية للعقل والحكمة، وليست الصين وحدها التي تواجه مثل هذه الضغوط.

في الشهر الماضي استشاطت حكومة الهند غضباً عندما اعترفت الجمعية العامة في ولاية كونيتيكت الأمريكية رسمياً بذكرى إعلان استقلال السيخ، وبالتالي فقد أظهرت الدعم فعلياً لولاية مستقلة داخل الهند.

من غير الواقعي مطالبة جميع الدول بالاتفاق على الأولويات والأنظمة والقيم، التي تتماشى جميعها مع مشورة هايك، أو بولاني، أو أي مفكر آخر، لكن هذا لا يعني أننا محكوم علينا بأن نعيش حالة من الصراع المستمر المتصاعد. الحق أننا قادرون على، بل يتعين علينا، أن نعمل على إيجاد أرضية مشتركة، وأن نسعى إلى المشاركة البَـنّـاءة وتقديم التنازلات في خدمة «تحول أعظم» عالمي نحو السلام والرخاء والصحة الكوكبية.

* زميل متميز في معهد آسيا العالمي في جامعة هونغ كونغ، وعضو المجلس الاستشاري لشؤون التمويل المستدام في برنامج الأمم المتحدة للبيئة

** رئيس مؤسسة هونغ كونغ للتمويل الدولي، وأستاذ ومدير معهد السياسة والممارسة التابع لمعهد شينزن للتمويل في جامعة هونغ كونغ الصينية في شينزن

 

Email