الولايات المتحدة والأزمات..دروس وعبر

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن أمريكا مطالبة بالتعامل مع الجانب الروسي بشكل دبلوماسي حصيف، لتستطيع تجنب أي إشكالات وصراعات تكلف عالمنا الكثير من الفواتير على كل الصعد. وفي العموم، لا بديل للولايات المتحدة عن هذا النهج الذي أثبت سواه عدم فاعليته. والبرهان في هذا السياق مشكلة ذات نطاق أوسع تتعلق في السياسة الخارجية التي تنهجها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ يبدو أن هناك تطابقاً ضعيفاً بين الإشارات التي ترسلها وما تستطيع تنفيذه لاحقاً. وبلا شك فإن التعامل مع روسيا له معايير خاصة ولا بد لأمريكا ان تعي ذلك جيداً وان تتدخل لحل مشكلات كثيرة روسيا طرف فيها، عبر النهج السلمي والتفاوضي الفاعل الذي لا يوتر ويجعل الجميع خاسراً بنهاية المطاف.

بادئ ذي بدئ، ليس خافيا علينا جميعاً أنه غالباً ما تبالغ الولايات المتحدة في التزاماتها في الاشتباكات العسكرية. إذ على سبيل المثال، أخفقت في تحقيق أهدافها في فيتنام وأفغانستان، وقررت في النهاية تقليص خسائرها. وأظهر الانهيار السريع للحكومات المدعومة من الولايات المتحدة في «سايغون» مدى ضآلة التقدم المحرز - مما ألحق ضرراً كبيراً بسمعة أمريكا العالمية.

وهذا بالضبط ما كان يخشاه مستشار الأمن القومي آنذاك، هنري كيسنجر، في عام 1969، عندما أخبر الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، أن «الانسحاب المفاجئ» من فيتنام قد يخلق «مشكلة مصداقية». ولكن أمريكا فقدت مصداقيتها أكثر بكثير عندما سحبت قواتها بعد أربع سنوات، بعد أن سفكت الدماء وأنفقت الكثير من الأموال.

إن التدخل الأمريكي في لبنان أفسده خطأ مشابه. إذ في أغسطس 1982، وصلت إلى هناك قوة متعددة الجنسيات، تضم مئات الجنود الأمريكيين بهدف الإشراف على انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من البلاد. وبحلول أوائل سبتمبر، كانت تلك المهمة قد اكتملت، وكانت القوات الأمريكية قد غادرت.

ولكن مذبحة اللاجئين الفلسطينيين على أيدي جهات لبنانية أعادت القوات الغربية إلى لبنان، حيث بقيت لإتمام مهمة أخطر. وفي أكتوبر 1983، قاد لبنانيون شاحنة مليئة بالمتفجرات إلى ثكنات مشاة البحرية الأمريكية في بيروت، مما أسفر عن مقتل 241 عسكرياً أمريكياً. (في غضون ذلك، أسفر هجوم منفصل عن مقتل 58 مظلياً فرنسياً). وفي غضون أشهر بعد ذلك، سحبت الولايات المتحدة وحلفاؤها قواتهم.

ويقول البعض إنه كان من الخطأ الانسحاب لأن ذلك أرسل رسالة إلى أعداء أمريكا، مثل أسامة بن لادن، مفادها أن الولايات المتحدة كانت «نمراً من ورق». وهذه هي العبرة السيئة. والواقع أنه كان ينبغي على الرئيس الأمريكي، رونالد ريغان، أن ينسحب بهدوء بمجرد اكتمال المهمة الأصلية. وعلى غرار كيسنجر، كان قلقاً من أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بمصداقية أمريكا. فحتى بعد التفجير، كرر تعهده بالإبقاء على القوات الأمريكية في لبنان. ولكن، كما حدث في فيتنام وأفغانستان، لم يؤد ذلك إلا إلى تفاقم الضرر الذي يلحق بالسمعة نتيجة الانسحاب في وقت لاحق.

إن الدرس واضح: يجب على الولايات المتحدة أن تضمن قدرتها عل التدخل الفاعل في أية بقع بعالمنا من خلال نهج توافقي وسلمي مقرون ايضا بالتصدي لأي معتدين.

وأخفقت الولايات المتحدة، في بعض الأحيان، في الاستفادة من أحداث كثيرة مرت. إذ في 12 يناير 1950، حدد وزير الخارجية، دين أتشسون، محيط الدفاع الأمريكي في آسيا، لكنه لم يشمل شبه الجزيرة الكورية. وبعد ستة أشهر، غزت كوريا الشمالية كوريا الجنوبية - واضطلعت الولايات المتحدة بقيادة الأمم المتحدة للدفاع عن البلاد. وأعادت تلك القيادة في نهاية المطاف الخط الفاصل بين شبه الجزيرة، ولكن ذلك حدث بعد ثلاث سنوات من القتال وسقوط أكثر من 1.7 مليون ضحية. ورغم أنه من المستحيل معرفة ما إذا كان التهديد الموثوق بتدخل الولايات المتحدة سيجنب الغزو، يبدو من غير المحتمل أن هذا التهديد لم يكن ليؤثر على حسابات كوريا الشمالية.

ومن المفيد في هذا السياق أن نستحضر مثالاً مهماً ناجعاً، إذ حدث تدخل أمريكي ناجح تميز بالتماسك بين القول والفعل في عام 1999. وفي فحواه قد طالب الرئيس بيل كلينتون، زعيم يوغوسلافيا، سلوبودان ميلوسيفيتش، بسحب قوات الأمن الصربية من كوسوفو. وعندما رفض، شن حلف الناتو حملة قصف. فوافقت القوات الصربية على الانسحاب، وأجبر الشعب الصربي ميلوسيفيتش على ترك منصبه في العام التالي.

وخلال الحرب الباردة، رأى الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، فوائد في أن يُنظر إليه على أنه زعيم غير عقلاني ومتقلب، في محاولة لردع أي استفزازات. ولكن ما يسمى بنظرية الرجل المجنون لها حدود صارمة، خاصة بالنسبة لدولة مهيمنة وحلفائها. ومن المرجح أن يؤدي ضمان الاتساق بين الإشارات والإجراءات إلى ردع الصراع بوسائل ليس أقلها تعزيز المصداقية على المدى الطويل. ومن المؤكد والمفيد هنا ان نشير إلى أن تدخل أمريكا في حل المشكلات العالمية يشمل أيضا طبيعة جهودها في التصدي لأزمة «كوفيد» ودعم الدول الفقيرة.

* أستاذ تكوين رأس المال والنمو بجامعة هارفارد، والعضو السابق في مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس بيل كلينتون.

Email