السياسات المالية الأجدى في مواجهة التضخم

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في وقت سابق، كانت طباعة النقود هي الوسيلة السائدة لسداد العجز تدريجياً، وهي لم تعد كذلك اليوم، لقد اتبعت الحكومة الفيدرالية الأمريكية في إدارة ديونها والسيطرة على العجز المادي، طريق مالكي المنازل البريطانيين، إذ على الرغم من أن أسعار الفائدة لن ترتفع غدًا، إلا أنها سترتفع بالتأكيد يومًا ما، وعندما يحدث ذلك، فإن تدحرج مخزون ضخم من الديون بعوائد أعلى سيكون له تكلفة مالية لا يستهان بها.

ويمكن للمرء أيضًا أن يتخيل الديناميكيات المالية السيئة التي لها تأثير معين، إذ يتسبب عبء الفائدة المتزايد في إصدار المزيد من الديون، وهذه الزيادة في العرض تقلل من علاوة السيولة على السندات الجديدة، مما يزيد من أسعار الفائدة ويتطلب إصدار سندات أكبر من أي وقت مضى.

وفضلًا عن ذلك، يمكن أن تظهر ديناميكيات سياسية بغيضة. فعندما يكون لقرارات البنك المركزي تأثير كبير على الخزانة العامة، فإن السياسيين سيميلون أكثر إلى إقناع محافظي البنوك المركزية على إبقاء أسعار الفائدة منخفضة، وسيرى المشككون أن هذا النوع من الأشياء لا يحدث في الولايات المتحدة، ولكن الرئيس الأمريكي السابق لم يخجل من مهاجمة الاحتياطي الفيدرالي عبر «تويتر»، وهو ما لم يكن من المفترض أن يحدث.

وهذه ليست حججًا لاعتماد سياسة نقدية أكثر انكماشًا، إذ يمكن لبنك الاحتياطي الفيدرالي إبقاء سعر الفائدة قصير الأجل منخفضًا حسب الحاجة، كما أنها ليست حججًا تبرر اتباع سياسة مالية أكثر انكماشًا، إذا أرادت إدارة بايدن إنفاق المزيد، يمكنها إصدار سندات طويلة الأجل أو زيادة الضرائب.

أثناء مرحلة الإعداد للندوة السنوية لبنك الاحتياطي الفيدرالي لمدينة كانساس، التي عقدت في جاكسون هول، في ولاية وايومنغ، أخيرًا، ركزت المناقشة على ما إذا كان ينبغي تشديد السياسة النقدية استجابةً لارتفاع معدل التضخم في الولايات المتحدة. وعندما قال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، إن مشتريات الأصول ستتقلص أولاً، وأن أسعار الفائدة سترتفع بعد ذلك بكثير، حُوِّل موضوع النقاش إلى مسألة كيفية تشديد السياسة.

وفي حين أن سياسة طباعة النقود لشراء السندات وخفض أسعار الفائدة طويلة الأجل لها ما يبررها خلال أزمات مثل تلك التي حدثت في 2008 أو 2020، إلا أن مسألة الإبقاء على سياسة التيسير الكمي في الفترات التي تتسم بقدر أكبر من الاستقرار ليست واضحة على الإطلاق. ولمعرفة سبب ذلك من المفيد تبديد ثلاثة مفاهيم خاطئة حول التيسير الكمي.

ويمكن المفهوم الخاطئ الأول للتيسير الكمي في اعتباره سياسة نقدية. فهو ليس كذلك، أو بالأحرى أنه لا يقتصر على ذلك، فهو سياسة مالية أيضًا، إذ في كل بلد، يكون البنك المركزي مملوكًا للخزانة. وعندما يصدر بنك الاحتياطي الفيدرالي نقودًا لشراء سند حكومي، فإن القطاع الخاص يحصل على التزام حكومي واحد مقابل التزام آخر.

والاعتقاد الخاطئ الثاني هو أن الحكومة دائمًا ما تتقدم في صفقة كهذه، لأن القطاع الخاص بحوزته ورقة مالية تدفع سعر فائدة أقل، ويجب ألا يكون الأمر كذلك، إذ فقط البنوك التجارية من يمكنها الاحتفاظ باحتياطيات البنك المركزي، واستخدامها لهذه الاحتياطات محدود.

ولحث البنوك على الاحتفاظ بمزيد من الاحتياطيات، يجب على محافظي البنوك المركزية دفع الفائدة عليها، كما فعل بنك الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا كأول خطوة في الاستجابة للأزمة المالية لعام 2008.

والمفهوم الخاطئ الثالث هو الاعتقاد أنه عندما يكون سعر الفائدة على احتياطيات البنك المركزي صفرًا أو أقل من سعر السندات الحكومية، يمكن للحكومة أن تنفق ما يحلو لها، وهذا هو المبدأ المركزي لما يسمى بالنظرية النقدية الحديثة، هذا مبدأ بليغ، وممتاز، وأنيق، وخاطئ.

نعم، يكون التمويل من إنشاء النقود ممكنًا عندما يكون العائد على النقود أقل من عائد السندات الحكومية. ولكن كلما قام البنك المركزي بطباعة المزيد والمزيد من الأموال، وجب عليه دفع أسعار فائدة أعلى بكثير على تلك الأموال، لضمان رغبة البنوك التجارية وعامة الناس في الاحتفاظ بها، وعاجلاً أم آجلاً، ستنغلق فجوة سعر الفائدة ولن يتبقى المزيد من إيرادات سك العملة، وإذا استمر البنك المركزي في طباعة النقود بعد هذه النقطة، فسيبدأ القطاع الخاص في إغراقها، مما سيتسبب في انخفاض قيمة العملة أو التضخم أو كليهما.

وبمجرد قبول المرء لهذه الشروط الثلاثة، يجب على المرء أن يسأل سؤال المليارات الدولارات: هل التيسير الكمي منطقي، من وجهة نظر مالية، في الولايات المتحدة اليوم؟ الجواب هو لا، وهناك سببان على الأقل.

في أواخر أغسطس 2021، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يدفع فائدة بنسبة 0.15٪ على أرصدة احتياطي البنوك التجارية، في وقت كان فيه سعر الفائدة على سندات الخزينة قصيرة الأجل يتأرجح حول 0.04٪. وهذا يعني أنه بالنسبة (لدافعي الضرائب في الولايات المتحدة) تمويل النفقات عن طريق إصدار السندات أقل تكلفة من طباعة النقود.

وقد يبدو هذا متناقضًا، ولكنه من المهم أن نتذكر أن العائد هو وكيل للسيولة، وفقط البنوك من يمكنها الاحتفاظ بالاحتياطيات في بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهي لا تعمل كضمان وتخضع لمتطلبات رأس المال. وبالمقابل، يمكن لأي شخص الاحتفاظ بسندات الخزانة، إذ يتم تداولها في سوق ضخم وراسخة، وتُستخدم بصورة روتينية كضمان لعمليات مالية أخرى، ولا عجب أن ينظر المستثمرون إلى سندات الخزانة على أنها أكثر سيولة ويطلبون عائدًا أقل منها.

واستحقاق الديون هو السبب الآخر الذي يجعل التيسير الكمي الإضافي غير منطقي من الناحية المالية، إذ يمتد استحقاق سندات الخزانة إلى آجال تصل إلى 30 عامًا، ولكن استحقاق الجزء غير المطلوب من احتياطيات الاحتياطي الفيدرالي محدد في موعد واحد فقط، وهو الاستحقاق الفوري (لأن البنوك التجارية لها الحرية في سحبها متى شاءت). ومن ثم، في كل مرة يصدر فيها الاحتياطي الفيدرالي احتياطيات لشراء سند طويل الأجل، فإنه يخفض متوسط استحقاق الدين الذي تصدره الحكومة.

في ظل هذه الظروف، كما جادل لورنس سمرز أخيرًا في صحيفة واشنطن بوست، فإن السياسة الصحيحة هي «إنهاء» الدين العام ــ تأمين معدلات منخفضة جدًا لأطول فترة ممكنة ــ وليس «إنهاء» الدين كما يفعل بنك الاحتياطي الفيدرالي مع التيسير الكمي. وهنا، فالحكومة تشبه الأسرة التي تتطلع إلى الحصول على قرض عقاري، إذ كلما انخفضت معدلات الفائدة طويلة الأجل، أصبح منطقيًا الاقتراض لفترة طويلة.

إن تشبيه الحكومة بمشتري عقار معين يسلط الضوء أيضًا على المخاطر الأخرى الناتجة عن آجال الاستحقاق القصيرة، وهي ارتفاع معدلات أسعار الفائدة في المستقبل.

ففي الولايات المتحدة، حيث الرهون العقارية ذات السعر الثابت لمدة 30 عامًا شائعة، ليس هناك ما يدعو صاحب المنزل الجديد للقلق بشأن ما سيفعله بنك الاحتياطي الفيدرالي بأسعار الفائدة في العام المقبل، أو حتى في العقدين المقبلين، ولكن في المملكة المتحدة، حيث الرهون العقارية ذات السعر المتغير هي القاعدة، فإن مالكي المنازل دائمًا ما يشعرون بالقلق بشأن الإجراءات التي سيتخذها بنك إنجلترا لاحقًا.

 

 

Email