المال والسياسة.. تقاطعات ودروس

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من الواضح أننا يجب أن نتوخى الحذر في التعامل مع الضجة المثارة حول الإبداع المالي. كما قَـدَّم شكسبير كلمة تحذير. تبدأ مسرحية تاجر البندقية بالتاجر أنطونيو الذي يتباهى بمدى تنوع محفظته الاستثمارية. «ليست كل بضائعي في منحى واحد؛ ولا هي موجهة إلى مكان واحد؛ بل إنني لم أقامر بكل ثروتي في مضاربات هذه السنة؛ وعلى هذا فإن تجارتي ليست سبب كآبتي». ولكن سرعان ما ضاعت سفنه وحمولاته في البحر، وبهذا لم يُـتـرَك له أي شيء لسداد ديونه.

الواقع أن دروس التقاطع بين المال والسياسة لم تَـغِـب عن مكيافيلي، وشكسبير، وسميث. فهل نستمر نحن في تجاهلها؟

يقدم لنا انهيار جرينسل كابيتال (Greensill Capital)، شركة الخدمات المالية التي تتخذ من لندن مقراً لها، تحذيرا في حينه لكنه مكلف بشأن عدد من الاتجاهات المعاصرة. لكننا نحتاج أيضا إلى تسليط ضوء أشد سطوعا على عالَـم الضغوط الشركاتية الغامض، وتنظيم المخاطر، وغير ذلك من القضايا عند تقاطع الرأسمالية والحكم. يُـقال إن شركة جرينسل حاولت استخدام رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون لإغراء المستثمرين لزيادة مساهماتهم المالية .

ثم في أعقاب اندلاع الجائحة، مارَس كاميرون الضغوط لصالح جرينسل لتأمين الوصول إلى خطة قروض الطوارئ، كما ضغط على هيئة خدمات الصحة الوطنية لحملها على تبني تطبيق مملوك لشركة جرينسل لدفع أجور موظفي هيئة خدمات الصحة الوطنية يومياً بدلاً من شهرياً.لكن حقيقة أن جرينسل كانت تروج لتطبيق للدفع المقدم لا تعني أنها كانت شركة إبداع مالي حقيقية. في واقع الأمر، كانت أنشطتها التمويلية مقتصرة إلى حد كبير على أعمال الصلب الضيقة.

إن جرينسل كانت تبيع نماذج تمويلية جديدة ومبهرة. ومع ذلك، لم تكن هذه الاقتراحات شيئاً جديداً. فلفترة طويلة كان الدافع الأعظم وراء التوسع المالي الذي بدأ في أواخر القرن العشرين متمثلاً في «التوريق» (تحويل الديون إلى أوراق مالية)، الذي يسمح للشركات بابتكار مجموعة لا نهاية لها من المنتجات «الجديدة».

تتضمن هذه العملية تجميع مجموعة متنوعة من الأصول لإنشاء مجموعة أكثر أمانا وشفافية ظاهريا، والتي يمكن بعد ذلك تقسيمها وإعادة تسويقها وفقا لمعايير عديدة. وفي النهاية، يصبح من الممكن فصل وفرز أنماط ومستويات المخاطر وبيعها للراغبين في الاحتفاظ بها.

بعد أزمة 2008 المالية، أُلـقي باللوم على التوريق باعتباره السبب وراء تضخيم المخاطر وليس تقليصها، وتبخرت النشوة المحيطة بالعملية نتيجة لذلك. لكن الممارسة لم تنته. في حالة شركة التمويل Lex Greensill، استُـخـدِمَـت لتعبئة وبيع القروض لمؤسسات مالية كبرى مثل Credit Suisse.

كانت شركة جيرنسل لاعبا رئيسيا في السوق المتخصصة لتمويل سلاسل التوريد، حيث يقوم المقرض بتقديم دفعات مقدمة إلى موردي أحد المشترين الرئيسيين مقابل رسوم. لا شك أن تمويل سلاسل التوريد أمر غير مألوف لأغلب القراء؛ لكنه ليس جديدا.

الواقع أن المؤرخين يرون أنه أقدم تطبيق للتمويل. وعلى هذا فإن تمويل المعاملات من خلال إعطاء التاجر الائتمان على ضمان فاتورة أو وعد بالدفع كان يُـشـبِـع حاجة غير مشبعة. وهناك من الأدلة ما يشير إلى أن هذه العملية كانت مألوفة حتى لدى سكان بلاد ما بين النهرين القدماء.

لكن في المقام الأول من الأهمية، كان تمويل سلاسل التوريد حجر الزاوية للخدمات المصرفية والمالية في أواخر العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث. وهنا، كان الإبداع الحاسم متمثلا في الحوالة أو سند المبادلة، الوثيقة التي تشترط دفع مبلغ محدد في وقت ما في المستقبل.

كان التاجر يشتري سند المبادلة ويرسله إلى البلد الذي يريد أن يستورد منه، حيث يمكن استخدامه لتأمين ملكية منتج ما ــ ولنقل بالة قطن أو صوف ــ لصالح تاجر آخر يقدم السند بعد ذلك إلى وكيل الـمُـصدِر الأصلي.

ألغت هذه العملية الحاجة إلى نقل كميات ضخمة من الأموال النقدية. لكنها عملت أيضا كأداة ائتمانية مبكرة: لأن مصدري سندات المبادلة كانوا يعملون غالبا مع ودائع عملاء ضخمة، فكان بوسعهم الانخراط في أنشطة مصرفية أخرى في ذات الوقت.

كانت شركة جرينسل ــ ولكن بشكل خاص دائنيها السذج (وعلى رأسهم سوفت بنك وكريدي سويس) ــ لتحسن صنعا بدراسة بعض هذه البنوك التي تعود إلى العصور الوسطى، وأفضلها توثيقا تلك التي كانت في فلورنسا. وبين هذه، كان أشهر بنوك فلورنسا حتى يومنا هذا هو «بيت ميديتشي».

في كتابه «صعود وانحدار بنك ميديتشي: 1397 ـ 1494»، يشرح المؤرخ الفلمنكي من القرن العشرين ريموند دي روفر، بين أمور أخرى، كيف أدار البنك فروعا ليس فقط في روما، والبندقية، ونابولي، وميلانو، بل وأيضا من خلال اتفاقيات الشراكة في أفينيون، وجنيف، وبروج، ولندن.

إن بنك ميديتشي ــ الذي فشل تماما بعد بضع سنوات ــ خدم كدرس نموذجي لنيكولو مكيافيلي، الذي أرجع كتابه «تاريخ فلورنسا» السبب وراء سقوط البنك إلى حقيقة مفادها أن مديري فروعه بدؤوا يعملون كأمراء أنفسهم. ثم أعاد آدم سميث صياغة هذه القصة لإظهار مدى فساد المؤسسات الحكومية وإهدارها للموارد، مما سمح للورنزو العظيم باستخدام «عائدات فلورنسا التي كانت تحت تصرفه».

 

 

Email