برامج مدروسة تعالج اختلالات الاقتصاد العالمي

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

إن التنبؤ بالأزمة المقبلة ــ المالية أو الاقتصادية ــ، خاصة في الغرب، لعبة لا يمكن الفوز بها. صحيح أن كل أزمة لها بطلها الذي حَـذَّر عن حق من شيء ما على وشك أن يأتي. وبحكم التعريف، قوبِل البطل في كل مرة بالتجاهل (فاندلعت الأزمة). لكن سجل التنبؤ الحديث يحتوي على سبب للحيطة: فكل من يتنبأ بشكل صحيح بحدوث أزمة نادراً ما يصيب مرة أخرى.

الواقع أن أفضل تصرف من قِبَل خبراء الاقتصاد هو أن يعكفوا على تقييم نقاط الضعف. إن النظر إلى الاختلالات التي تعيب الاقتصاد الحقيقي أو الأسواق المالية يعطي حساً بالعواقب المحتملة التي قد تترتب على صدمة كبرى.

ولا يتطلب الأمر الكثير من الجهد لتصحيح عمل الاقتصادات والأسواق. لكن التصحيح المعتاد يختلف كثيراً عن التعامل مع أزمة. إذ تشكل شدة الصدمة ودرجة الضعف أهمية كبيرة: فالصدمات الكبرى التي تتعرض لها الأنظمة التي تعاني ضعفاً شديداً وصفة أكيدة للأزمة.

في هذا السياق، يكمن مصدر الضعف الأكثر إثارة للقلق على الإطلاق في اعتقادي في حالة الميزانيات العمومية المفرطة في التوسع للبنوك المركزية. ويرجع قلقي إلى ثلاثة أسباب:

أولاً، لا مجال لإنكار حقيقة مفادها أن ميزانيات البنوك المركزية العمومية مفرطة في التوسع حقاً. ففي نوفمبر 2019، كان مجموع أصول البنوك المركزية الكبرى ــ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك اليابان ــ 14.5 تريليون دولار أمريكي، وهذا أقل قليلاً من الذروة التي بلغت نحو 15 تريليون دولار في أوائل عام 2018 وأكثر من 3.5 أضعاف مستوى ما قبل الأزمة الذي بلغ 4 تريليونات دولار.

ويأتي استنتاج مماثل من قياس حجم الأصول تبعاً لحجم اقتصاداتها على التوالي: فيأتي بنك اليابان في الصدارة بنحو 102% من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، ويليه البنك المركزي الأوروبي بنحو 39%.

ثانياً، كان توسع الميزانية العمومية للبنوك المركزية تجربة سياسية فاشلة في الأساس. صحيح أنها كانت تجربة ناجحة في دعم الأسواق المنهارة قبل أكثر من عقد من الزمن، في أوج الأزمة في أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009.

لكنها فشلت في تحقيق أي إنجاز في إطلاق التعافي الاقتصادي القوي. تصور القائمون على البنوك المركزية أن ما نجح خلال الأزمة سينجح بالقدر ذاته خلال فترة التعافي. لكن هذا لم يحدث.

فقد ارتفع مجموع الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان بنحو 5.3 تريليونات دولار في الفترة من 2008 إلى 2018، أو ما يقرب من نصف إجمالي توسع ميزانيات بنوكها المركزية مجتمعة، والذي بلغ 10 تريليونات دولار خلال الفترة ذاتها. ويُـعَد المبلغ المتبقي (4.7 تريليونات دولار) المعادل الوظيفي لضخ السيولة الهائل الذي دعم أسواق الأصول على مدار فترة ما بعد الأزمة.

ثالثاً، عادت البنوك المركزية مرة أخرى، وهي غارقة في حالة من الإنكار، إلى رفع الرهان على توسيع الميزانية العمومية كوسيلة لتحفيز التعافي الاقتصادي الهزيل.

وقاد تحول بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في أواخر عام 2018 الطريق، فعكس أولاً اتجاه التطبيع المخطط لسعر الفائدة الرسمي، ثم سمح لميزانيته العمومية بالنمو مرة أخرى (لأغراض إدارة الاحتياطي حسب زعمه) بعد التخفيضات المنتظمة من منتصف 2017 حتى أغسطس 2019.

وتظل المشتريات من الأصول عند مستويات مرتفعة بالنسبة لبنك اليابان كعنصر بالغ الأهمية في حملة إنعاش الاقتصاد في إطار «اقتصاد آبي». وقد سارعت رئيسة البنك المركزي الأوروبي المنصبة حديثاً كريستين لاجارد، أحدث محافظة للبنوك المركزية في العالم، إلى التأكيد علناً على أن السلطات النقدية الأوروبية سوف «تفتش وتبحث في كل مكان» ــ وهو ما يفترض أن يشمل الميزانية العمومية.

لماذا يُـعَد كل هذا مريباً إذاً؟ في عصر يتسم بانخفاض معدل التضخم، يبدو من الواضح أن البنوك المركزية التي تستهدف التضخم ليس لديها ما تخشاه من الاستمرار في ارتكاب الأخطاء على جانب الملاءمة النقدية غير الاعتيادية. وعموماً، تكمن المشكلة جزئياً في تفويض استقرار الأسعار ذاته ــ المعمول به منذ فترة طويلة، لكنه أصبح غير مناسب الآن كمرساة للسياسة النقدية.

تكمن المشكلة أيضاً في الاقتصادات الحقيقية الضعيفة القريبة للغاية من سرعة التوقف.. بعبارة أخرى، لا تكتفي الاقتصادات المتقدمة الكبرى بمغازلة الأسواق المالية المبالغ في تقدير قيمتها والاستمرار في الاعتماد على استراتيجية فاشلة في التعامل مع السياسة النقدية، بل إنها تفتقر أيضاً إلى أي سند للنمو في لحظة، حيث أصبحت في مسيس الحاجة إليه. في مثل هذا العالم وهذه الحقائق لا بد أن نتسلح ببرامج عمل اقتصادي مدروسة كي نمنع اي فرصة لاشتعال شرارة الأزمة في عام 2020.

 

 

Email