Nina L. Khrushcheva

بوتين يستعرض

إن الاستعراض العسكري الذي شهدته موسكو (منذ أيام قليلة) لإحياء الذكرى السبعين لنهاية الحرب العالمية الثانية يَعِد بأن يكون أكبر احتفال بيوم النصر منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. فقد مر عبر الساحة الحمراء وفوقها 16 ألف جندي، و200 عربة مدرعة، و150 طائرة وطائرة مروحية. حيث شكل مشهداً يسهل ربطه بزعماء الاتحاد السوفييتي مثل ليونيد بريجينيف ونيكيتا خروتشوف، وهم يتلقون التحية العسكرية فوق قبر لينين.

إن الطبيعة السريالية الخيالية لهذا التجمع تعكس الطبيعة المتزايدة الغرابة التي يتسم بها نظام بوتين. والواقع أن مراقبة روسيا اليوم باتت أشبه بمشاهدة آخر سلسلة أفلام X-Men، «أيام المستقبل الماضي». فكما يضم أبطال هذا الفيلم قواهم إلى قوى ذواتهم الشابة لإنقاذ مستقبل البشرية، يعود الكرملين اليوم إلى ماضي روسيا السوفييتي في ما يراه معركة معاصرة من أجل بقاء البلاد.

والعنصر البالغ الأهمية في هذه الاستراتيجية هو الدعاية التي تخلط بين الغرب اليوم والألمان الذين غزوا روسيا عام 1941، في حين تصور المسؤولين الحكوميين في أوكرانيا بوصفهم «فاشيين» و«نازيين جدد». وقد اعتمد الكرملين على مثل هذه الادعاءات، جنباً إلى جنب مع الحاجة المفترضة إلى الدفاع عن الروس في الخارج، لتبرير عدوانه ضد أوكرانيا. ففي خطاب ألقاه بوتين عقب ضم شبه جزيرة القرم، زعم أن رفض الغرب «الدخول في حوار» ترك روسيا بلا اختيار. فقد أعلن: «نحن نعرض باستمرار التعاون في معالجة كل القضايا الرئيسية.

ونحن نريد تعزيز مستوى الثقة بيننا وجعل علاقاتنا متساوية ومفتوحة وعادلة. ولكننا لم نر أي خطوات في المقابل». وبعد شهر، عزز بوتين هذه الصورة للروس باعتبارهم ضحايا متفوقين أخلاقياً للغرب الذي يتسم بالقسوة والتصلب. فأكد «نحن أقل برجماتية من غيرنا، وأقل اعتباراً لحسابات متناقضة». قبل أن يضيف قائلاً إن «عظمة» روسيا و«حجمها الهائل» يعنيان «أننا نتمتع بقلب أكثر سخاء».

ليس من الصعب أن نميز أوجه التشابه بين نهج بوتين الآن ونهج جوزيف ستالين، الذي أعلن في بداية الحرب العالمية الثانية أن «العدو يهدف إلى تدمير الطبيعة الثقافية لروسيا، وفرض الطابع الألماني على شعبها، وتحويله إلى عبيد». والفارق بطبيعة الحال هو أن الجيش الألماني غزا الاتحاد السوفييتي بالفعل، في حين أن أوكرانيا كانت تريد ببساطة أن تقرر مستقبلها.

ودون دفاع عن ستالين، يتعين على المرء أن يعترف بالمساهمة السوفيتية الهائلة ــ بما في ذلك حياة 26 مليون مواطن ــ في النصر الذي حققه الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. في ذلك الحين، كان العرض العسكري في الساحة الحمراء ــ الذي شارك فيه نحو 35 ألف جندي، وما يصل إلى 1900 قطعة من المعدات العسكرية، وأوركسترا مؤلفة من 1400 عازف ــ كان مهرجاناً مستحقا. ولم تدخر القيادة السوفيتية أي تكلفة في تنظيم عروضها العسكرية، التي أصبحت في غياب أي تهديد عسكري خارجي أداة مهمة لحشد الوحدة الوطنية.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تسعى روسيا التي لم تعد قوة عظمى، إلى استعراض قوتها العسكرية. ولكن في عام 2005، وفي إطار الاحتفال بالذكرى الستين لنهاية الحرب العالمية الثانية، أقام بوتين استعراضاً عسكرياً كبيرا ــ وقد حضره قادة الغرب، الذين تصوروا آنذاك أن روسيا ربما يكون لها مستقبل أوروبي.

إن نبرة الاحتفالات بيوم النصر هذا العام أقل إثارة للتوقعات. فكيف للمرء أن يحتفل بنهاية حرب في حين يرى أحفاد أولئك الذين خاضوا تلك الحرب (يدفعهم الأمل بلا أدنى شك في مستقبل يسوده السلام لأجيال المستقبل) وهم يقتلون بعضهم بعضاً في حرب وحشية صغيرة في شرق أوكرانيا؟ وما المغزى من عروض الألعاب النارية وسط إطلاق مدافع الهاوتزر والصواريخ الحقيقية؟

كان المؤرخ روبرت باكستون يعتقد أن المرء من الممكن أن يعرف الكثير عن أي بلد بمراقبة استعراضاتها العسكرية. والواقع أن كتابه الصادر عام 1966 بعنوان «الاستعراضات العسكرية والسياسة في فيشي»، يصف كيف استخدم فيليب بيتان، بوصفه رئيساً لدولة فيشي في فرنسا، المواكب المهيبة والسياسات الرجعية، وبالطبع الشراكة مع أدولف هتلر، لخداع بلده المهزوم وحمله على الاعتقاد بأنه لا يزال يشكل أهمية في العالم. الواقع أن نموذج دولة فيشي القائم على التقاليد السلطوية مجد الأسرة واحتفى بالوطن، في حين خدم بيتان، القائد العسكري السابق، كملك عسكري من نوع ما رُفِع إلى المنبر.

وأوجه التشابه مع روسيا بوتين واضحة. حيث يرى نفسه كقيصر جديد. وتملي عليه خلفيته في جهاز الاستخبارات السوفييتي (كي جي بي) أسلوبه في ممارسة القيادة، الذي يتضمن منع الانتخابات الحرة النزيهة، واضطهاد المعارضين، وتشجيع القيم المحافظة التي تتعايش مع النفوذ المفسد للغرب «غير الأخلاقي» و«المنحل»، كما فعل بيتان من قبله.

بالاعتماد على هذا النهج، بنى بوتين تحالفاته، وتُعَد الصين، الدولة صاحبة ثاني أضخم اقتصاد في العالم، إضافة مفيدة إلى هذه المجموعة من الدول الصديقة المعادية للديمقراطية، بما تحمله من مظالم استراتيجية خاصة مع الغرب، ولكن على النقيض من الصين، فإن روسيا ليست قوة عظمى صاعدة. وربما يحاول بوتين تصوير تصرفاته في أوكرانيا بوصفها معركة ضد الفاشية. ولكنها في الحقيقة معركة لتأكيد الذات ــ وهي المعركة التي لن يفوز بها أبدا. ومهما كان العرض العسكري كبيراً وعظيما، فإنه لا يستطيع أن يخفي الحقيقة: وهي أن أيام روسيا كقوة عظمى باتت من الماضي، وأن وطنية بوتين، مثلها كمثل وطنية بيتان، هي وطنية المهزومين.

 

* عميدة بجامعة نيو سكول في نيويورك، وكبيرة زملاء المعهد العالمي للسياسات حيث تدير مشروع روسيا.