المطر.. مسار طبيعي وتاريخ ثقافي

المطر يشكّل الحضارات ويصوغ الحياة البشرية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

على الرغم من أن هذا الكتاب ليس كتاباً في قضايا السياسة ولا مشكلات الاقتصاد ولا في العلاقات الدولية، فإنه لا يزال يحوز اهتمام المحللين منذ صدوره في شهر أبريل الماضي، خاصة وقد اختارت مؤلفته، وهي تحترف مهنة الكتابة الصحافية، أن تتدارس موضوع المطر - بمعني الماء الهاطل من أجواز السماء ودوره في حياة البشرية - ابتداء من عصور ما قبل التاريخ، مروراً بالحضارات الكلاسيكية القديمة، حتى عصر الثورة الصناعية، إلى زماننا الراهن، فيما توخت المؤلفة باستمرار التعامل مع جوانب موضوعها من منظور العلاقة بين الكائن البشري وقطرة المطر.

وأوضحت في هذا السياق أنها علاقة يمكن وصفها بأنها جدلية، بمعني أنه بقدر ما شكّل المطر حياة الإنسان وتجسدت مظاهر هذا التشكيل في مجاري الأنهار وساحات المزروعات، فإن الإنسان تدخّل من جانبه ليشكل مسير ومصير قطرة المطر، وإن كان هذا السلوك الإنساني اتسم بعناصر السلبية إلى حد ليس بالقليل، حيث نجم عن الأنشطة الصناعية كما هو معروف انبعاثات كربونية، فضلاً عن أنشطة سلبية أخرى كان في مقدمتها قطع الأشجار واجتثاث الغابات المطيرة، وهي الساهرة بحكم قوانين الطبيعة على سلامة واتزان الدورة المائية التي تخدم أساليب الحياة فوق كوكب الأرض.

 

عندما أدرك العرب القدماء قيمة معدن الذهب لم يتورعوا عن استعارة صفة له من لغة الإغريق، فأطلقوا عليه الوصف المعروف: الذهب.. الإبريز.

وقد ظل الذهب على مر العصور مقياساً للندرة والنفاسة وارتفاع القدر، حتى إنه لا يزال يطلق عليه في معاجم الاقتصاد الوصف الذي يفيد بأنه مخزن القيمة.

وكان طبيعياً من ثّم أن يُطلق وصف مصطلح الذهب على كل مادة تجمع بين ارتفاع القيمة وغزارة الجدوى بالنسبة إلى حياة البشر على مر العصور.

وفي هذا المضمار، كان التفّنن في توليد الألفاظ وفي اختيار الألوان المناسبة على وجه الخصوص. من هنا تسامع الناس بنوع مستجد على حياة العرب، ربما منذ أيام القرن التاسع عشر من فصيلة الذهب، وهو: الذهب الأبيض. وهي كناية بالطبع عن القطن طويل التيلة، هذا المحصول الزراعي الذي عرفته مصر العربية منذ أيام حاكمها القديم محمد على الكبير (1769- 1849)، وبفضله أصبح القطن المصري طويل التيلة - الذهب الأبيض كما ألمحنا - ينافس باقتدار القطن الهندي والقطن الأميركي في أسواق الغزل والنسيج على مستوى العالم.

ثم هلت على الدنيا مع مطالع القرن العشرين بشائر نوع ثالث من الذهب، واختاروا له لوناً مغايراً حين وصفوه بالذهب الأسود.

هو ذلك السائل من الوقود الأحفوري، كما يسميه الاختصاصيون، ويعرفه أهل المعمورة باسم النفط - البترول الذي لا يزال يبّث هدير الحياة في أوصال الماكينات والموتورات والمحركات، فيما تخضع أسعاره إلى ترمومتر بالغ الحساسية، ترصد درجاته دوائر ومصالح شتى في العالم، تبدأ من شركات الاستكشاف والتنقيب، ولا تنتهي عند بورصات الإنتاج والنقل والتسعير.

مع وعي البيئة

لكن حكاية تلوين هذه المعادن والمنتوجات لم تنته بعد، ولا اقتصرت حتى الآن على ألوان الأصفر للذهب والأبيض للقطن أو الأسود للبترول.

في زماننا الراهن - وبالذات مع زيادة ما يمكن وصفه بأنه الوعي البيئي، وخاصة مع مغيب القرن الماضي ومطالع القرن الحالي - بدأت المجامع العلمية والإعلامية تتوقف ملياً عند لون مستجد على اهتمامات البشر وهو: اللون الأزرق.

هنا تسللت إلى الأدبيات العلمية والسياسية العبارة المستجدة بدورها التي تقول بما يلي: الذهب.. الأزرق، والعبارة باختصار تنصرف إلى عنصر يجمع بدوره بين القيمة العالية والمنفعة اللازمة لاستمرار الحياة، نتحدث بالطبع عن الماء، ونصدر في هذا السياق عن القول الكريم والحكيم:

وجعلنا من الماء كل شيء حي (الأنبياء - 30).

وكم أتت على البشر عصور من التاريخ وهم يتعاملون مع الماء بمنطق أقرب إلى البداهة والتسليم، بمعنى أن الماء موجود ومتاح ومتوافر، ومن ثم فلا جناح على اتساع وتنوع استخداماته إلى حدود الإفراط والتسيّب، بل الإهدار في كثير من الأحيان.

حروب المياه

لكن ها هي غوائل الجفاف الرهيب تجتاح أخيراً أصقاعاً متباينة، وتفترس أرجاء شتى من العالم، ما بين بوادي وسط آسيا في الشرق إلى ساحات ولاية كاليفورنيا اللاهية المترفة عند أطراف الولايات المتحدة المطلة على الباسيفيكي في الغرب، وما بينهما ينهش الجفاف مناطق بائسة من الصحراء الكبرى في وسط وغربي القارة الإفريقية.

من هنا بدأ التركيز العلمي والمعرفي والفكري والبحثي، على ما وصفوه كما أسلفنا بالذهب الأزرق أو الثروة النفيسة الزرقاء، لدرجة أن هناك من الساسة والمخططين والباحثين من لا يزال يحذر من أن الصراع العولمي الذي يمكن أن يهدد سلام البشرية في عقود مقبلة سيحمل ببساطة العنوان التالي: »حرب المياه«.

لهذا كله جاء اهتمامنا واهتمام الأوساط الفكرية في أميركا بصدور الكتاب الذي اختارت له مؤلفته سنثيا بارنت، الكاتبة المتخصصة في القضايا البيئية، عنواناً يقول ما يلي: المطر.. تاريخ طبيعي وثقافي.

صدر هذا الكتاب في شهر أبريل الماضي، وما زالت التعليقات والتحليلات المنشورة بشأنه تتوالى برغم أنه، كما يبدو من اسمه وموضوعه، لا يتعلق بقضايا السياسة ولا بصراعات الدول ولا طبعاً بحياة المشاهير، لكنه يتعلق كما نتصور بأمر جوهري، هو الحياة ذاتها، بمعنى حياة البشر في عصرنا وكوكبنا، ومن منظور مستقبلنا كما قد نقول.

ولأن المؤلفة كاتبة صحافية، وحاصلة على جوائز عدة في تخصصها، فقد جاءت لغة الكتاب تجمع بين العمق والطلاوة، وتتميز بإيقاع سائغ ومحبب من ثم إلى أذواق وأفهام القارئين.

يتألف كتابنا من خمسة أبواب رئيسة، تنتظم في مجموعها 13 فصلاً. ويبدأ أول الأبواب بعرض تحليلي عن بدايات المطر، بمعنى الماء في حياة البشر وعلى مدار الحضارات الإنسانية الأولى، فيما ينتهي الكتاب عند الباب الخامس بعنوان رئيس له دلالته، حيث صاغته المؤلفة كما يلي: المطر الزئبقي.

ونعني به أن المطر لم يعد طوع أمرنا كبشر على نحو ما تعودت عليه الإنسانية، ولا عاد يتدفق من لدن السماء بالمقاييس نفسها من تواتر المواسم وغزارة الهطول، تكاد المؤلفة تحذرنا من أن المطر - الماء أصبح كائناً زئبقياً - مراوغاً، وأن الأمر بات يحتاج بكل تأكيد إلى التغيير (عنوان الفصل الثالث عشر)، وهو ليس تغييراً بسيطاً ولا محدوداً، ولا موقوتاً، بقدر ما أنه تغيير شامل اتساعاً، ومتجذر عمقاً بكل المقاييس، وأيضاً بمعنى تغيير في المواقف والسلوكيات والتعاملات والاستخدامات التي ظلت البشرية تتبعها على مدى عشرات الآلاف من السنين إزاء كائن من مخلوقات مبدع الكون، كائن يبدو بسيطاً، مطروحاً، بديهياً، لكن آن الأوان كي يوفيه البشر ما له من حق الاهتمام والتقدير والقصد والتوقير: هذا الكائن بالطبع يصدق عليه الاسم البسيط: قطرة الماء.

هنالك تذهب مؤلفة الكتاب إلى أن السماء اختارت كوكب الأرض بالذات كي تهبه هذه القطرة وبها كانت الحياة، إنها تنقل عن البروفيسور دفيد غرينسبون، مسؤول علوم الفلك في مكتبة الكونغرس، إفادته بأن الكواكب الأخرى - في إطار المجموعة الشمسية - تحوي عنصر الماء، لكن بكميات يراها الباحث المذكور غير كافية لاستقامة الحياة فوق سطح كوكب مثل الزهرة أو المريخ، لكن الأمر جاء مختلفاً بالنسبة إلى كوكبنا الأرضي، حيث يضيف البروفيسور غرينسبون قائلاً: »لكي يصبح الماء قوة تمسك علينا الحياة، فقد تعيّن عليه أن يتراكم طبقة من فوق طبقة في أجواز السماء، ثم يتحرك بعد ذلك على متن الرياح إلى أن ينزل أمطاراً غزيرة تهطل على سطح الكوكب، حيث تعّوض الكميات الساقطة عن الفاقد الذي يتبّدد بسبب الاستخدام والتبّخر، فإذا بالمياه تتجدد على ظهر الأرض يوماً من بعد يوم.

التعامل مع المطر

شعوب وأقوام عديدة يتابع كِتابنا ردود أفعالها إذا ما عزّ سقوط المطر: منها ما يؤدي رقصات ذات شعائر طقسية موروثة وموجهة بالتوسل إلى عنان السماء، ومنها ما ينخرط في صلوات وتضرعات ودعاء (على نحو ما يفعل المؤمنون من أداء صلوات الاستسقاء) ومنها - يضيف الكتاب - ما لا يتورع عن قصف الأجواء العليا بوابل من المركّبات الكيماوية، وبالمناسبة تضيف كاتبتنا، فلا يكاد يكون ثمة فارق بين أهل إفريقيا الذين يوقّرون ساحر القبيلة بكل ما يلقيه على مسامعهم من تعاويذ، ويطلقون عليه وصف صانع المطر، وبين أهل أميركا المعاصرين، ومنهم من كان يدعو إلى أداء صلوات خاصة على درجات سلالم مبنى الولاية ما بين ولاية جورجيا إلى أصقاع تكساس، برغم أن النتيجة كان يصعب التنبؤ بها في معظم الأحوال كما تضيف المؤلفة في هذا السياق.

هنا أيضاً تقف فصول الكتاب ملياً عند ظاهرة تغير المناخ، وقد أصبحت - كما هو معروف - أقرب إلى الهاجس المنذر بالخطر على نحو يؤرق ضمير العالم الذي أصبح بدوره نهباً لتقلبات أحوال الطقس التي غالباً ما تنطوي على اجتياح الصواعق والأعاصير على نحو غير مسبوق، فضلاً عن نوبات الجفاف اللافحة التي تهدد مستقبل الأمن الغذائي على صعيد العالم بأسره. وهو ما يقابله عند الطرف الآخر من تقلبات وأحياناً غدرات الطقس، ما يحدث أحياناً من فيضانات وعواصف من الأمطار الرعدية التي تشكّل بدورها خطراً محدقاً بأرواح ومعايش البشر في بقاع شتى من عالمنا.

وهذا ما يؤكد ما تذهب إليه مؤلفة الكتاب حين توضح ما يلي: إن المطر، سواء كان غزيراً أو شحيحاً، لا يزال له دور مرسوم وفعّال في تشكيل حياة البشر، وبدلاً من سقوط الأمطار وسط أجواء واعدة بالنماء، وحيث القطرات الندية تكاد تصافح أو حتى تعانق سفوح الجبال ومسالك الأراضي وجداول الري وأوراق الشجر، إذا بأمطار أخرى في زماننا تصبّ شآبيبها أحياناً بشكل مدراري يسّد الطرق، ويهدم المساكن، ويُغرق أسباب المعايش، ويجتاح أسباب الحياة بسيل الفيضان، وأحياناً يفعل العكس.

 

جيفرسون يسجل معدلات سقوط المطر في أميركا

تقول الكاتبة في موضع آخر من الكتاب إن المطر هو العنصر الطيب الذي حال بين كوكبنا وبين أن يعصف بكائناته هبوب الرياح الصرصر أو اجتياح العواصف العاتية وصواعق الأعاصير، حيث إن غياب المطر يعني تكاثف الغبار، ولدرجة أن للمطر دوراً - تتأمله المؤلفة - في تنظيف صفحة السماء كي تبدو للناظرين في زرقتها الجميلة والمهيبة أيضاً.

في السياق نفسه، تشير المؤلفة إلى شغف كوكبة من ساسة أميركا وعلمائها السابقين بعمليات تسجيل معدلات الأمطار التي تسقط فوق هذا الموضع أو ذاك من قارة أميركا الشمالية: تحيل مثلاً إلى ما كان يعكف عليه واحد من مؤسسي الولايات المتحدة، وهو رئيسها رقم ثلاثة، توماس جيفرسون (1743- 1826)، حين كان في صدارة من ظل يحتفظ بدفتر يسجل فيه حسابات ومعدلات سقوط الأمطار، ثم يدوّن ملاحظاته بشأن تواتر هذا السقوط ومواسمه، والآثار التي يخلّفها على الزرع والبشر والطبيعة على السواء.

ومن عجب - يضيف الكتاب (ص 123) - أن حسابات جيفرسون التي بات عمرها نحو 200 عام كانت دقيقة، برغم إجرائها قبل أن يتوصل العلم الحديث إلى تكنولوجيات رصد وقياس الأمطار. ولأنها صحافية بحكم المهنة الأصلية، فقد عمدت مؤلفة هذا الكتاب إلى زيارة قامت بها إلى ربوع الهند، وقصدت بالذات منطقة من مناطق الشمال الهندي، كي تقابل أفراد عائلة اشتهرت هناك بأنها ظلت تتبع أسلوباً فريداً في التعامل مع مياه المنطقة: وعلى امتداد أربعة أجيال، ظلت الأسرة الهندية تستخلص مياه الأمطار المتجمعة من الأمطار الموسمية، ثم تقوم بتعبئتها في قنانٍ أنيقة، خاصة تحت العنوان التجاري التالي: »عطر المطر«.

كانوا يستخرجون كميات الماء من طين الصلصال عشية هبوب عواصف الأمطار الموسمية، ثم يقومون بتبخيرها مدة 7 ساعات فوق موقد بدائي تفوح من نيرانه رائحة فضلات البقر، والغريب أن كانت الزجاجات إياها تلقي قبولاً ورواجاً لدي بيعها من جانب الهواة الشغوفين. في فصل آخر، تعرض المؤلفة إلى العلاقة الخاصة التي ما برحت تربط بين الإنسان والمطر، وهي توضّح ما لا تزال تتسم به هذه العلاقة من أطوار عجيبة وسلوكيات يصعب تفسيرها في بعض الأحيان، وخاصة عندما يصبح المطر عزيزاً، ويصبح الإنسان معرضاً أمام طائلة الخطر بكل مقياس: هنالك يفكر أهل العلم الحديث في أساليب تلقيح السحب كي تجود بأمطارها.

 

التدخل البشري في تشكيل المطر

تؤكد لنا صفحات كتابنا أن المطر - الماء هو الذي صنع الإنسان والحضارة وسبل المعايش، تستوي في ذلك حالة الهطول السخي للمطر، مع حالة الندرة وشحة المورد المطري. لكن توضح المؤلفة أنه مع مجيء عصر الثورة الصناعية بدأ الإنسان دوره المقابل، بدأ يتدخل في تشكيل وصياغة المطر، وكان ذلك أمراً سلبياً في التحليل الأخير: بدأ الإنسان ينفث في الغلاف الجوي مواد الكربون المتولدة عن أنشطة الصناعات الحديثة، فأدى هذا إلى تلويث المطر الذي بات يحتوي على الغازات الحمضية الضارة، وكأنما تدفع البشرية ثمناً مقابل ما قطعته من أشواط.

 

المؤلف

تخصصت الكاتبة الصحافية سنثيا بارنت في الموضوعات والقضايا البيئية التي أصبحت مثاراً لاهتمامات الاختصاصيين والقراء العاديين، وذلك بحكم ما أصبح ملموساً من الآثار السلبية التي بات يحذر منها العلماء، وفي هذا المضمار أصدرت المؤلفة اثنين من الكتب المهمة، حيث حمل كتابها الأول عنوان: »الثورة الزرقاء - مواجهة أزمة المياه في أميركا«، فيما جاء كتابها الثاني ليحمل العنوان

 

تأليف: سنثيا بارنت

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: دار بنغوين راندوم، نيويورك، 2015

عدد الصفحات: 355 صفحة

Email