9 دول إفريقية في بقعة ساخنة من خريطة العالم

يركز مؤلف هذا الكتاب الذي يتضح - من واقع اسمه - أنه ينتمي إلى جذور إفريقية إثيوبية بالذات على منطقة القرن الإفريقي، التي تعد من المنظور الاستراتيجي العالمي واحدة من المواقع المحورية بالنسبة لأمن التجارة والمواصلات في العالم.

ويعزو الكتاب أصول المشكلات الخطيرة التي ما برحت تعصف بأساليب الحياة في القرن الإفريقي إلى ما تخلّف في المنطقة من مواريث مرحلة الاستعمار والاستغلال الامبريالي، الذي شاركت في جرائمه قوى الاستعمار البريطاني والايطالي، فكان أن خلّفت تلك التركة التي ما زالت الاقطار الإفريقية الثمانية القائمة في أرض القرن الإفريقي تعاني آثارها سواء تحت وطأة التخلف الاقتصادي أو النعرات القبلية - العشائرية والانقسامات العرقية التي ما لبثت أن تحولت إلى صراعات إثنية ذات طابع دموي في أحيان كثيرة - إضافة إلى أن قوى الاستعمار تركت تلك البلدان لتعيش أولاً حقبة رفعت أعلام الاستقلال في ستينات القرن المنصرم، ولكن ضمن حدود رسمها الاستعمار دون مراعاة لعوامل التوافق والانسجام بين الثقافات والمجتمعات وهو ما يفرض - كما يؤكد الكتاب - اتباع اسلوب التحول الديمقراطي الذي يكفل روح الشراكة ومن ثم التوافق على صعيد تلك المجتمعات الإفريقية.

القرن الإفريقي منطقة جغرافية لا تخطئ العين شكلها وتكوينها، ولو من النظرة الأولى على خريطة المنطقة الواصلة بين ثلاث قارات محورية هي: أوروبا وإفريقيا وآسيا.

تحمل المنطقة اسماً شهيراً هو القرن، وهي كلمة مشتركة بين اللغة العربية بالطبع وأيضاً مع اللغة اللاتينية التي تعرف لفظة كورنو- قورنو وصفاً لشكل وتكوين القوس في المنطقة المذكورة، التي تطل منها تخوم الطرف الشرقي للقارة الإفريقية على مياه المحيط الهندي بعد أن تتدفق الأمواج الآتية من جهة الشمال عبر البحر الاحمر إلى مضيق باب المندب.

تلك هي منطقة القرن الإفريقي كما أصبحت تعرف في الاطالس والمعاجم والمخططات السياسية في طول عالمنا وعرضه على السواء.

منطقة ما زالت تموج - كما هو معروف- باضطرابات وصراعات ونزاعات بعضها يتسم بطابع سلمي ولو بشكل نسبي ولكن بعضها، إن لم يكن معظمها، يتسم بطابع العنف المسلح، المدمر لكل ما هو حرث أو نسل، بل كل ما هو واعد بمستقبل أفضل للمــنطقة الإفريقية الشرقية ولشعوبها أيضاً.

لا عجب أن اختارها البروفيسور كيداني منغستيب موضوعاً لكتابه الذي نطالع مقولاته في هذه السطور، فيما حرص المفكر المذكور، وهو على نحو ما يتضح من اسمه ينتمي إلى أصول أو جذور إفريقية ،على أن يجعل من المنطقة المذكورة عنواناً للكتاب: القـرن الإفريقي.

ثم كان الدكتور منغستيب حريصاً على أن تبدأ صفحات هذا الكتاب المركّز إلى حد التكثيف بأحدث خريطة منشورة لمنطقة القرن الإفريقي قبل أن يمضي إلى طرح وتفصيل ثمار البحوث التي قام بها بخصوص هذه المنطقة عبر 8 فصول بدأها بفصلين - الأول والثاني - مرتبطين بالواقع المعاش حالياً في منطقة القرن الإفريقي التي يصفها المؤلف بداية بأنها أصبحت بقعة ساخنة - إن لم تكن ملتهبة - ضمن النظام العولمي - الكوكبي الراهن، خصوصاً وقد اتقدت جمرات النزاعات المحتدمة في معظم ربوعها على نحو ما أورد المؤلف تفصيلاته عبر سطور الفصل الثاني من الكتاب.

أما الفصل الثالث فهو يحرص على التأكيد - من منظور البحث العلمي - على أن صراعات القرن الإفريقي الراهنة لها جذورها التي تمتد عبر مراحل من الزمان مضت إلى ما يصفه المؤلف في الفصل المذكور بأنه »التركة الموروثة من عصر الامبراطوريات«.

عن المواريث الإمبريالية

والمعني بالطبع هو أن الحقبة الاستعمارية التي سبق أن عاشتها منطقة القرن الإفريقي وكابد فيها سكانها مختلف صنوف المعاناة والقهر والاستغلال ما زالت آثارها السلبية باقية كي تطبع معظم أرجاء القرن الإفريقي وما يتاخمها من أصقاع شرقي إفريقيا، على شكل تخلف اقتصادي ونعرات قبلية وتفشي آفة فقر السكان وانخفاض مستويات التعليم وانحسار مدّ الثقافة، حيث لا يُستثنى من كل هذه السلبيات تلك الاقطار التسعة التي لا يزال يضمها القرن الإفريقي وهي: إثيوبيا، الصومال، إرتيريا، السودان، جنوب السودان، أوغندا، كينيا وجيبوتي.

وبديهي أيضاً أن يتوقف المؤلف ملياً عند واقع هذه البلدان التسعة المشاركة في منطقة القرن، خصوصاً عند الاختلافات الدينية بالدرجة الأولى ما بين الدين الاسلامي والعقيدة المسيحية، فضلاً عن قطاعات لا يمكن تجاهلها من سكان دواخل المنطقة ممن لا تزال تدين بعقائد منسوبة إلى قوى الطبيعة (أنيميزم).

هاجس الأمن

عند هذا المنعطف من مقولات الكتاب يكاد المؤلف يتوقف بقدر لا يخفي من الأسى العلمي - كما قد نسميه - عند محصلة هذه التطورات السلبية التي عصفت وما زالت تعصف بمقادير القرن الإفريقي، ومن ثم أطاحت بآمال شعوبه المشروعة عبر الدول التسع التي يضمها. وهذه الآمال تتوزع على نحو ما يقول المؤلف في الفصل الثامن- الأخير من الكتاب إلى ثلاثة مجالات وهي:

(1) الأخذ بالديمقراطية أسلوباً للحكم.

(2) تفعيل التكامل - بمعني التجانس أو التواؤم - على مستوى المجتمع.

(3) تحقيق الاستقرار باعتباره الأمر اللازم لتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية - الاجتماعية لصالح أجيال الحاضر والمستقبل.

من هنا يركز الكتاب على هاجس الأمن باعتباره القضية المحورية، سواء للأخذ بمنهج التحول الديمقراطي أو للاقتراب من أوضاع المصالحة أو التوافق الاجتماعي، فضلاً عن خلق حالة الاستقرار اللازمة لأي جهود ترمي نحو تحقيق التنمية أو التقدم، خصوصاً في ضوء الأزمة المزدوجة التي يتوقف مؤلف الكتاب عندها ملياً من منظور البحث والتحليل العلمي، وهي الازمة التي أودت بحياة الآلاف من سكان القرن الإفريقي ممن ذهبوا ضحية الصراعات العسكرية، فيما لا تزال تطحن الملايين من سكان المنطقة في دوامة الفقر وانعدام الامن الغذائي وندرة الموارد اللازمة لاستمرار الحياة.

الإهداء إلى ضحايا الحرب

وبرغم المنهج الأكاديمي الذي يتبعه البروفيسور كيداني منغستيب في عرضه لجوانب هذا الموضوع، إلا أن القارئ لا يلبث أن يحسّ بعمق مشاعر المؤلف إزاء ضحايا الصراعات الدموية في القرن الإفريقي، وهو ما يتجلى في أن المؤلف حرص على إهداء كتابه إلى ضحايا الحرب من سكان المنطقة ومعظمهم بل أغلبهم لم يكن من الاطراف المباشرة المسؤولة عن تلك الصراعات.

وقد يسترعي النظر أن مؤلفنا يذهب في تحليله لأوضاع القرن الإفريقي إلى أن مشكلات هذه المنطقة التي يصفها بأنها البقعة الساخنة في النظام العالمي إنما ترجع إلى مرحلة ما بعد التخلص من الاستعمار.

في تلك الفترة، سارع القوم - في غمرة النشوة التي سيطرت عليهم تحت أعلام الاستقلال - إلى تكوين وإعلان الكيانات المستجدة التي حملت توصيف الدولة - القومية الحديثة المستقلة التي ترفرف الاعلام الوطنية على روابيها في الظاهر أو على السطح. ولكن هذا الكيان المستجد المذكور كان يضم أخلاطاً أو أشتاتاً من تجمعات عرقية وعشائرية ذات ثقافات متباينة، وهو ما أفسح المجال - كما يوضح المؤلف - لعداوات وخصومات وصراعات بل وثارات إثنية، أفضت بدورها إلى مآلات من التمايز ومن الفصل العنصري، فضلاً عن تهميش القطاعات والشرائح الاضعف داخل الدولة الجديدة ولصالح القطاعات أو الشرائح التي شاءت الطوالع أو المصائر السياسية أن تضع في أيديها مقاليد الثروة أو النفوذ السياسي.

جماعات المصالح وصراعات الحدود

هنالك - يضيف كتابنا - تشكلت ثم استشرت ما يصفه المؤلف بأنه جماعات المصالح ومراكز القوى فيما ظهرت أيضاً مشكلات وصراعات الحدود التي سبق للقوى الاستعمارية الأوروبية أن رسمت معالمها بما يحقق مصالح القوى المذكورة ودون مراعاة للواقع الماثل على الأرض الإفريقية ذاتها.

من ناحية أخرى يبادر مؤلف الكتاب ليؤكد - ومن منظور علم السياسة أيضاً - أن الاختلاف العِرقي أو هو التنوع الاثني لا يفضي بحد ذاته إلى نزاع أو صراع اجتماعي، فالتعدد أو التنوع أو حتي التباين بين جموع السكان في بلد ما يمكن أن يشكل مصدراً للقوة إذا ما قام على مهاد من تنوع وتفاعل وتوافق الثقافات والمصالح والغايات الوطنية بالدرجة الأولى.

لكن مشكلة القرن الإفريقي أن قامت هذه التنويعات لتجد أمامها إزاء دولة جديدة وضعيفة بل ومتهافتة لم تفلح موضوعياً في إنشاء المؤسسات الوطنية السياسية ولا في إرساء دعائم البنى الاساسية الاقتصادية، وعلى نحو يمكن أن يكفل تجسيد وتطوير وترقية المصالح الوطنية لشعوب منطقة كانت تتطلع أجيالها إلى غد أفضل وسط عالم بات يحفل مع مطلع كل صباح بالجديد من التحديات.

في هذا السياق بالذات يقول مؤلفنا على صفحة 96 من الكتاب: إن التناقضات - التباينات في توزيع السلع والاغراض المادية أصبحت تمّثل (في القرن الإفريقي) مبرراً لما اندلع داخل دول تلك المنــطقة من حروب حـــــدودية إضـــافة إلى الحروب الاهلية وزاد الامر سوءاً ما ساد تلك الدول من الفشـــل في إدارة الموارد ناهيك عن زيادة مفرطة في عدد السكان (ص 155).

ثم يأتي العامل الإيكولوجي، وهو المرتبط بحكم التعريف بجوانب البيئة. وفي هذا المضمار يعرض الكتاب إلى ما لحق ببيئة القرن الإفريقي من مشكلات يأتي في مقدمتها الاضرار الناجمة عن سياسات زراعية جانبها الرشد، خصوصاً ما يتعلق بتدهور التربة اللازمة بداهة للإنتاج الزراعي، إضافة إلى غياب سياسات حاذقة وناجعة تكفل للمنطقة سبل التكيّف مع الارتفاعات المتزايدة في درجات الحرارة.

وهنا أيضاً يحلل الكتاب أبعاد هذه السلبيات البيئية، موضحاً أن سكان القرن الإفريقي جديرون بأن يتضاعف عددهم خلال عقود قليلة مقبلة، وهو ما قد يعّرض المنطقة لأزمات في تحقيق الامن الغذائي وفي توفير الموارد المطلوبة من المياه العذبة اللازمة للحياة.

وفي هذا الصدد يدعو المؤلف أقطار المنطقة إلى تطوير منظمتها الاقليمية المعروفة باسم إيغاد (الهيئة الحكومية الدولية للتنمية) مستفيدين من الادوار الاكثر إيجابية التي تضطلع بها كيانات إفريقية مقارنة وعلى رأسها مثلاً الجماعة الانمائية بالجنوب الإفريقي (سادك).

والمعنى في ضوء ما سبق هو أن سبيل الخلاص أمام شعوب منطقة القرن الإفريقي إنما يتمثل - كما تؤكد المواضع الأخيرة من هذا الكتاب - في الجمع بين إصلاح أداة الحكم والاخذ بمناهج التحول الديمقراطي سبيلاً لاستتباب الامن، مع العمل على إقرار الحد المعقول من السلام في ربوعها وبما يمكن أن يكفل نجاحاً يعتّد به في التنمية الاقتصادية لصالح شعوبها.

 

الصومال دولة فاشلة بامتياز

يتابع المؤلف المواريث المتخلفة في القرن الإفريقي عن قوى الامبريالية الاوروبية التي توالت على احتلال أراضيها واستغلال سواحلها ومقدراتها حيث كانت هذه القوى تحمل الجنسيات البريطانية والفرنسية والايطالية على حد سواء.

هذه المواريث الاستعمارية كان من شأنها أن أسلمت إلى أوضاع فادحة السلبية على نحو ما عانته أطراف المنطقة الإفريقية موضوع هذا الكتاب.

صحيح أن من أقطارها إثيوبيا مثلا، ما حصل على استقلاله، كما هو معروف عن قوى الاستعمار الايطالي في فترة مبكرة نسبياً، وهي السنوات الاستهلالية من أربعينات القرن العشرين، فكان أن سبقت بالطبع ذروة المد الاستقلالي والتحرري لقارة ،إفريقيا التي يؤرخ لها بفاتح الستينات عام 1960 على وجه الخصوص. لكن نظام الامبراطور هيلا سيلاسي الذي حلّ وقتها محل الاستعمارية الايطالية ما لبث أن فرض بدوره حكماً سلطوياً على ربوع إثيوبيا اكتنفته صراعات عرقية وأحياناً دينية ، فضلاً عن انقسامات حادة في بعض الاحيان بين أهل الديانتين المسيحية والاسلامية في إثيوبيا، ناهيك عن صراعات كانت فادحة بدورها- في غمار محاولات هيلا سيلاسي ضم إرتيريا إلى مملكته التي غربت شمسها، كما هو معروف في عام 1974 بانقلاب جاء بنظام حمل عنوان الشيوعية فكان أن دفعت إثيوبيا ثمن نظام سابق ونظام لاحق.

الظاهرة نفسها التي يمكن أن يُطلق عليها توصيف »الدولة الفاشلة« يمكن أن تُطلق على حالة الصومال التي شهدت خليطاً من نظم شمولية وصراعات داخلية وفشل متواصل في إدارة الموارد الوطنية ما أسلم إلى استشراء نزعات العنف التي تجّسدت بدورها في عصابات القرصنة البحرية، فيما تجسدت بالقدر نفسه من العنف المدمر والشر المستطير في تشكيلات ودعوات حملت عنوان »الشباب« التي ما برحت تمارس هجماتها الإرهابية .

 

نافذة على أمل سياسي

يحاول المؤلف، وبرغم أبعاد الصورة النمطية التي يعرضها، أن يفتح نافذة على أمل سياسي بالدرجة الأولى، بحيث تُقَال منطقة القرن الإفريقي من عثراتها الراهنة: المؤلف يؤكد في هذا السياق ضرورة وضع السياسيين وصانعي القرار أمام مسؤولياتهم بما يحول دون الامعان في نظم الحكم الشمولي المطلق. وبنظرة أكثر واقعية يدعو الكتاب إلى انتهاج مسار يجمع بين الاسلوب الديمقراطي في الحكم وبين مسؤولية حكومات المنطقة عن التخطيط المركزي والتخطيط الجهوي لاقتصادات الدول والأقاليم التابعة لسلطاتها.

 

المؤلف في سطور

البروفيسور كيداني منغستيب مفكر وأكاديمي من أصل إثيوبي إفريقي. ويعد من الباحثين الثقات في مجال الدراسات الخاصة بالقضايا الإفريقية وأيضاً قضايا الأفرو- أميركيين.

حصل المؤلف على أولى درجاته العلمية من قسم التاريخ بجامعة أديس أبابا في إثيوبيا، و حصل على الماجستير وبعدها على الدكتوراه في الشؤون والقضايا الدولية من جامعة دنفر بالولايات المتحدة.

من أبرز أعمال المؤلف كتابه "تشريح المأساة الإفريقية"، وكتابه " العولمة والتركيز على الذات في التنمية الإفريقية في القرن الحادي والعشرين". و كتابه "العوامل المحورية في النزاعات المحتدمة بالقرن الإفريقي".

عدد الصفحات: 240 صفحة

تأليف: كيداني منغستيب

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: دار بوليتي للنشر، نيويورك، 2015