الهند اليوم: الاقتصاد والسياسة والمجتمع

أسرار خلطة نهرو السرية في الهند

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعل أهم ما يميز هذا الكتاب- وهو ما يذهب إليه التحليل النقدي المنشور بقلم توليكا غوبتا من جامعة غلاسكو في اسكوتلندا أن مؤلفيه الثلاثة اتبعوا في التعامل مع المادة العلمية والمضمون الفكري للكتاب نهجاً متعدد التخصصات ، بحيث لم تقتصر أبوابه الثلاثة التي ضمت فصوله الثلاثة عشرة على مجرد السرد التاريخي ولا التحليل النفسي- الاجتماعي، ولا البحث الاقتصادي..

وإنما جاء منهج الكتاب جامعاً بين هذه العوامل كلها من ناحية، فيما نري أيضاً من جانبنا أن المؤلفين أضافوا إلى هذا المبحث نظرة مستقبلية تستشرف الآفاق التي من المقدر أن تؤول إليها التطورات التي استجدت، وما برحت تستجد، على الشأن الهندي العام وصولاً إلى منتصف القرن الواحد والعشرين، حيث يسود التوقع بأن ترتقي الهند إلى مكانة سامقة ،من حيث التطور الاقتصادي الاجتماعي..

ومن حيث ترشيد ممارستها الديمقراطية التي درجت عليها منذ عصر الراج (البريطاني) ثم حقبة الاستقلال التي شهدت بالذات مرحلة حكم جواهر لال نهرو وأنديرا غاندي. وفيما تتميز طروحات هذا الكتاب بالنظرة البحثية المتعمقة من جانب مؤلفيه، فإن هذه النظرة تزيدها ترشيداً أو تميزاً حصيلة الخبرة المباشرة ،التي عايش فيها مؤلفوه أبعاد الواقع الهندي.

 من الوهلة الأولى، يبدو عنوان الكتاب أقرب إلى المانشيتات التي ترصع بها الصحف صدر صفحاتها الأولى، العنوان ببساطة هو: الهند اليوم.وربما تعّود القارئ المدقق أن يصرف النظر في نوع من السلوك التلقائي أو رد الفعل المنعكس، كما يقول أهل السيكولوجيا ،عن مثل هذه العناوين التي تكاد تومئ إلى أن القارئ يوشك أن يتعرض لسيل من الدعايات والعبارات البراقة أو الصور الممّوهة بكل ألوان الطيف.

لكن مؤلفي الكتاب الذي نقلب صفحاته ونحلل طروحاته في هذه السطور سرعان ما يطالعون القارئ بالمحاور الثلاثة التي يديرون على أقطابها مقولات هذا الكتاب ،وهي: الاقتصاد + السياسة، + المجتمع.

ثم يزيد من قيمة هذا العمل العلمي حقيقة أنه من نتاج مطابع جامعة كامبردج البريطانية، بكل سمعتها المرموقة في عالم البحث الأكاديمي والدراسات العلمية، فضلاً عن الخبرة المتراكمة خاصة في بريطانيا بالهند ومجتمعاتها وأحوالها وتاريخها وتطور مؤسساتها السياسية والاقتصادية على السواء. وهي خبرة تراكمت بطبيعة الحال، سواء بالسلب خلال عقود طويلة من الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية، وهو ما يعرف تاريخياً بزمن الراج، أو من خلال الصلات الفكرية الأكاديمية التي ربطت، ولاتزال تربط بين الطرفين، وخاصة من خلال الشراكة في اللغة الإنجليزية.

تطورات واعدة

ثم يأتي هذا الكتاب ليتوافق أو يتزامن مع مرحلة زمانية راهنة حافلة بالأحداث، بقدر ما أنها واعدة بالتطورات وخاصة من واقع ما يرصده مراقبو الشأن الهندي من ارتفاع مكانة الهند بوصفها قوة دولية يحسب لها حساب، سواء بحكم دور محوري تضطلع به في الشأن الأسيوي أو بحكم موقعها ضمن مجموعة "بريكس" الشهيرة، التي تضم أيضاً كلاً من الصين والبرازيل إلى جانب روسيا وجنوب أفريقيا، وتحمل في مجملها وصف الاقتصادات الصاعدة أو الناهضة.

على هذه النقطة التي تجسد واقع التطور في الهند يركز كتابنا أولى ملاحظات مؤلفيه الثلاثة. وتتلخص الملاحظة في أن الهند كانت تعد منذ عشرين عاماً فقط بلداً نامياً، يكافح بغير هوادة ضد آفات شتي ما بين كونها تضم كما كانت تفيد الإحصاءات الدولية- أكبر عدد من الفقراء في العالم، وتعاني على نحو ما كانت ترصد دوائر البنك الدولي من مشكلات يأتي على رأسها انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، هذا فضلاً عن مواريث اجتماعية سلبية وضاغطة بكل معنى ناجمة عن نظام طبقي جامد بل متكلس يضم طائفة المنبوذين ويهدد بحكم التعريف باندلاع صراعات دينية- عقائدية- طائفية ودموية في بعض الأحيان.

والحاصل أن تحولت تلك الهند المثقلة بمواريث الماضي وأعباء الحاضر- إلى حيث أصبحت، كما يشهد هذا الكتاب واحداً من قوي الصعود الاقتصادي في العالم، ولدرجة أن يتوقع لها مؤلفو هذا الكتاب أن تحقق مكانة الاقتصاد رقم إتنان، أو على الأقل رقم ثلاثة على مستوى الكرة الأرضية، مع اقتراب منتصف هذا القرن الواحد والعشرين.

هنا يخلص كتابنا إلى طرح السؤال المحوري الذي يقول: كيف ولماذا تم هذا التحول التاريخي؟ ثـــــــــــــــم ما هي الآثار المترتبة عليه بالنسبة لشعب الهند والمجتمع الهندي والسياسة الهندية؟

إن الإجابة، أو محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، تشكل بدورها محور الفصول الثلاثة عشرة التي تضمها صفحات هذا الكتاب، وهذه الإجابات ليست مطروحة من منظور البحث الأكاديمي فقط، بقدر ما أنها مشفوعة أيضاً بدفق لا يخفي من الخبرة العملية و المعايشة الميدانية التي حصلها مؤلفو هذا الكتاب بحكم ما أمضوه من سنوات في أنحاء متفرقة من شبه القارة الهندية، خلال المرحلة التي شهدت تلك التحولات الجذرية التي ألمحنا إليها، بل أن منهم من أمضي 15 سنة كاملة باحثاً ومعايشاً في هذا المضمار.

البداية من تاريخ الاستقلال

وقد نلاحظ من ناحية أخرى أن الكتاب لم يشأ أن يغرق في تفاصيل التاريخ الطويل للهند، ولكنه اختار أن ينصّب التركيز على التطورات التي إستجدت على الحالة الهندية منذ استقلالها عن الراج البريطاني في عام 1947..

وفي سياق هذا الإطار الزمني، يرصد الكتاب ما استجد من إيجابيات بفضل ما بذل من جهود خلال مرحلتي الزعيم نهرو، ثم أنديرا غاندي، كريمة الزعيم المذكور. وقد تجسد أهم هذه التطورات، كما يوضح الكتاب، في الانكماش الذي أوضحه المؤلفون (ص 56 وما بعدها) في حالة ومعدلات الفقر المدقع ،وهو انكماش أو انخفاض ظل مطرداً منذ سنة 1970.

هذا الإنجاز في مواجهة أحوال الفقر المدقع أو المتطرف ،كما يعبر الكتاب بدوره إلى دعم التحولات في مجال الممارسة الديمقراطية على صعيد الهند.

وفي هذا السياق أيضاً لا يتردد المؤلفون في تأكيد أن نضوج وتطور الطبقة الهندية الوسطي الهند يرجع الفضل في معظمه إلى أن الطبقات العليا- الوسطى في المجتمع الآسيوي المذكور لم تتورع عن محاكاة أساليب الحياة والفكر والسلوك المتبعة في المجتمعات المدنية في أقطار الغرب الأوروبي الأمريكي..

وإن كان الكتاب يؤكد أيضاً من باب الاحتراز العلمي فيما نرى- على أن هذه المحاكاة لم تقف عند نواح ضئيلة الأهمية ،مثل الأزياء أو الأطعمة أو سبل المتعة أو اللهو، بقدر ما كان التركيز منصبّاً على مجالات التربية والتعليم والبحث العلمي والقيم الديمقراطية ،وهو ما أدى إلى وضع الهند عبر العقود القليلة الأخيرة من القرن العشرين على عتبة الانطلاق نحو تحقيق إنجازات علمية وتكنولوجية مرموقة بكل المعايير..

ويتصدرها بحكم الواقع الذي يؤكد عليه هذا الكتاب تلك المساهمات المشهودة التي لا تفتأ هند اليوم تضيفها إلى عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ولدرجة أن أصبح هناك من يصنف الهند في رتبة الثاني أو الثالث في مجال إنتاج وتطوير وتصدير البرمجيات الإلكترونية على مستوى العالم كله.

أسرار الوصفة السحرية

وبغير إسهاب في تناول سر وصفة النجاح الهندية يتوقف الجزء الأول من هذا الكتاب عند الخطوط الرئيسية التي سبق إلى وصفها وانتهاجها الزعيم الرائد جواهر لال نهرو منذ تحقيق الاستقلال، وعلى مدار عقد الخمسينات وحتى رحيله عن العالم قبيل منتصف الستينات.

والوصفة ببساطة تجمع بين عدة عناصر محورية ومؤسسية أيضاً ويبلورها الكتاب على النحو التالي: دولة ديمقراطية + اتحادية (فيدرالية) واشتراكية (بمعنى تستهدف العدالة الاجتماعية) + مدنية (بمعنى لا تقحم العقائد والأديان وما أكثرها بالهند في معمعة السياسة بكل مشكلاتها وأحابيلها).

من هنا حققت الهند ما يصفه الكتاب بأنه ثورة صامتة ،بمعنى تحولات جذرية وبالغة الإيجابية ويانعة الإثمار على صعيد السياسة والاقتصاد والمجتمع على السواء. حيث قفزت من موقع دولة الراج الخاضعة للاستعمار البريطاني، إلى مكانة قيادة حركة عدم الانحياز والحياد الإيجابي..

ومن ثم إلى مكانة الكيان الذي تطَرد خطواته على مسار النمو الاقتصادي ومحاربة الفقر وترقية التعليم وإعداد وتدريب وتخريج كوادر بلغت شأواً لافتاً ورفيعاً على صعيد العلم والتكنولوجيا وتم هذا كله، أو تم أغلبه كما يؤكد كتابنا، دون أن يقتضي ثمناً من الصراعات والمعارك الدموية التي كانت كفيلة بحكم التعريف أيضاً- بإصابة المجتمع بآفات الانقسام والتشرذم ومواريث الصراع وثارات الدماء ومن ثم التربص والانتقام.

صحيح أن الكتاب يوجه نقداً مسهباً فيما نرى إلى حقبة رئيسة الوزراء الراحلة أنديرا غاندي (1917-1984) وخاصة ما يتعلق باتباعها سياسة شعبوية تجسدت في تكريس وتضخيم دور الدولة واتباع أسلوب التخطيط المركزي في مجال الاقتصاد- إلا أن الهند استطاعت أيضاً أن تتحول من مجرد الاقتصار على دور الدولة إلى رحابة الاقتصاد الليبرالي ( وهو ما يرادف القول بتحرير الاقتصاد).

مع ذلك لا يفوت الجزء الثالث والأخير من كتابنا أن يحذر من أن هذا التحرير الاقتصادي أدى في جوانب شتى من مسيرته وتطبيقاته إلى التركيز لصالح قطاعات بعينها وفئات بذاتها من شرائح المجتمع الهندي على النحو المعهود في ممارسات السياسة الليبرالية الجديدة في دنيا الاقتصاد. وهذا نهج لابد من التحذير من وطأته ومغّبته إذ يؤدي إلى نشوء مصالح وربما طبقات جديدة محظوظة بحكم التعريف ..

وهو ما يمكن أن يتم على حساب القطاعات والشرائح الأوسع من المجتمع، ولقد يصل التحذير، على نحو ما تذهب إليه طروحات الجزء الأخير من هذا الكتاب، إلى إثارة نمط مستجد وخطير أيضاً من الانقسام ومن ثم إلى السخط الطبقي الذي يتمثل خطره..

فيما يحذر منه محللون من ناقدي هذا الكتاب حين يلمحون إلى أن استمرار الانقسامات الطبقية والطائفية في الهند يمكن أن يفضي إلى تمرد ماوتسي ،بمعنى عناصر تستلهم تجربة ماوتسي تونغ الصينية في تحدي الأوضاع السياسية- الاجتماعية القائمة وهو ما قد يشكل خطراً جسيماً يتهدد الحالة الهندية الراهنة.

دعوة إلى التمكين

من هنا يركز مؤلفو كتابنا على ما يطرحونه في الفصل الثالث عشر- الأخير تحت العنوان التالي تمكين الناس. وهم يقصدون بداهة تمكين عامة الجماهير في طول شبه القارة الهندية وعرضها، وإن كان لا يفوتهم كما يلاحظ أيضاً نقاد هذا الكتاب أن الوجود الهندي لايزال يتأرجح بين قطبين أساسيين يتمثل أولهما في ظاهرة التحول الاجتماعي..

فيما يتجسد الثاني في أحوال الديمقراطية الشعبية. صحيح أن ديمقراطية الهند لاتزال محصورة في تصور المؤلفين ضمن نطاق الممارسة الانتخابية، إلا أن الأمل لايزال معقوداً على أن تتحول هذه الممارسة الإيجابية ..

كما يشير البروفيسور جون هيل الأستاذ بجامعة ماكغيل الكندية- إلى عوامل مؤثرة تفضي بالمجتمع الهندي الراهن إلى ديمقراطية يمكن وصفها بأنها اجتماعية، بمعنى تعميق شعور وممارسات العدل الاجتماعي وإتاحة سبل التمكين لكل القطاعات والفئات وخاصة الشرائح المهمشة ابتداء بالمرأة، وطوائف المنبوذين وليس انتهاء بالعناصر التي لاتزال تصنف في خانة المنبوذين في المجتمع الهندي المعاصر.

المؤلفون في سطور

يتميز مؤلفو الكتاب الثلاثة بالتنوع من حيث الشخصيات العلمية لكل منهم، وإن كان يضمهم بداهة القاسم المشترك المتمثل في اهتمامهم بأحوال وتطورات شبه القارة الهندية. ويعمل أولهم وهو ، وهو البروفيسور كريغ جيفري أستاذاً للجغرافيا البشرية في جامعة أكسفورد البريطانية.

أما البروفيسور ستيوارت كوريردج فيعمل أستاذاً لدراسات التنمية في واحدة من أهم المؤسسات الأكاديمية في العالم ،وهي مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. ويعمل الثالث وهو الدكتور أوين هاريس مديراً لمدرسة (كلية) الدراسات الدولية في جامعة سيمون فريزر. وبالإضافة إلى هذه المؤهلات والمواقع الأكاديمية فمن بين هذا الثلاثي الأكاديمي- البروفيسور كوريردج نموذجاً- يحرص على التواصل مع أوسع قطاعات الجماهير عن طريق وسائل الإعلام وخاصة الراديو الذي سبق وأن عمل في سلكه على مدار سنوات..

فضلاً عن إجادته اللغة الهندية حديثاً وكتابة على السواء. وقد بدأت أنشطته العلمية منذ عام 1988 الذي نشر فيه باكورة دراساته في دورية الدراسات الآسيوية الحديثة، وكان موضوعها بعنوان أيديولوجية الاقتصاد والمجتمع القبلي وجاءت تطبيقات هذه الدراسة من حيث المكان في مناطق قبلية نائية من شبه الجزيرة الهندية، فيما شغلت من حيث الزمان الفترة الفاصلة بين عام 1950 وعام 1980.

 عدد الصفحات: 332 صفحة

تأليف: ستيوارت كوريردج وجون هاريس وكريغ جيفري

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مطبعة جامعة كامبردج، نيويورك، 2013

Email