حاز الفريق القانوني لدولة جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد الحكومة الإسرائيلية حول حرب الإبادة الجماعية على شعب قطاع غزة، على إعجاب الرأي العام العالمي كله في أكثر من جانب.
وهو إعجاب في محله بلا شك، ولا يستطيع عاقل أن يتجاهل الكثير من النقاط التي يمكن استخلاصها من هذا الفريق الذي (بنظري) يقدم خلاصة تجربة نضالية ممتدة منذ عام 1912 من القرن الماضي، عندما تم تأسيس المؤتمر الوطني الأفريقي إلى 1994 عندما أصبح زعيمه الراحل نيلسون مانديلا رئيساً لجنوب أفريقيا، ثم بدأ بترسخ دعائم نضاله السلمي حتى وفاته في عام 2013 تاركاً إرثاً سياسياً إنسانياً وتجربة ميدانية يمكن الرجوع إليها والاستفادة منها في معالجة القضايا النضالية الشبيهة بها كما هي القضية الفلسطينية.
وبالتالي فإن ما يقوم به الفريق الجنوب الأفريقي الحالي في لاهاي ينبغي تناوله في هذا الإطار وليس التركيز فقط من خلال زاوية التقليل من الدور العربي وما تقوم به حكوماته من جهد دبلوماسي وسياسي في المطالبة والدفاع عن حق الشعب الفلسطيني ولا نبقى غير منصفين للعرب وللأفارقة أيضاً.
إيجابيات كثيرة في هذه المرافعة لخدمة القضية الفلسطينية التي تحتاج إلى كل جهد نبيل لأنها قضية عادلة، بكل ما تعني الكلمة من معنى وتتوفر فيها كل أسباب نجاحها لينال الإنسان الفلسطيني حقه في العيش الكريم وبوجود دولته وعاصمتها القدس الشرقية.
وربما أفضل من يشعر بهذا الأمر هم الشعب الجنوب الأفريقي (أحفاد نيلسون مانديلا) لأنهم ينقلون تجربتهم التي عاشوها، وهذا لا يعني أن باقي شعوب العالم لا يستشعرون بمعاناة الشعب الفلسطيني، وإنما من عاش التجربة ليس كمن سمع بها، لهذا فإن صدق مشاعر «أحفاد نيلسون مانديلا» في المرافعة كانت واضحة.
الجميل في مسألة المرافعة لم تكن عاطفية فقط وإنما كانت مدعومة بالمعلومات، وبالتالي حالة إقناع الرأي العام العالمي كانت سهلة رغم أن صفحات المرافعة المكتوبة لم تتعد 84 صفحة فقط، أضف إلى ذلك حالة «التناغم» بين الفريق الجنوب أفريقي ليس فقط من ناحية تكامل المعلومة بل في تحديد مطالبهم.
حيث تحددت في جانبين، الجانب الأول: إيقاف الحكومة الإسرائيلية لعمليات التدمير للبنية التحتية لقطاع غزة وعمليات القتل الجماعي للسكان المدنيين، والجانب الآخر: إثبات إسرائيل أنها ارتكبت جرائم الإبادة الجماعية.
التركيز على «المعايرة» والاستخفاف بالدور العربي غيب الآتي: العقلانية في الطرح والمطالبة في الحقوق وهذا ما تفعله بعض الدول العربية الباحثة عن حل للقضية. وغيب أيضاً، جمالية مزيج الفريق الذي يتكون بين الأفارقة والبعض من أصول غير أفريقية وهو الجزء المعتدل الذي لا يلغي طرف ويحاول أن يستفرد بالقرار.
كما غيب الأساليب والأدوات الجديدة في المطالبة في الحقوق والتي يدركها أغلب الناس في العالم وهي «قوة المعلومة» وليس عمليات الاختطاف والتفجير والقتل وإرهاب المدنيين، لأن مثل هذا الأمر يُفقد القضية عدالتها وتعاطفها الدولي.
التشدد الفكري والعنف يخربان كل جهد دبلوماسي عقلاني، وقد عانى المؤتمر الوطني الأفريقي منهما في الفترة الأولى من تأسيسه إلى بداية الثمانينيات.
وبالتالي كان من الأجدر أن نستفيد من هذه المرافعة من خلال معرفتنا لمنطلقات هذا الفريق الذي يؤكد على قوة صاحب الحق عندما يخاطب الناس بالعقل وليس بالمغامرات والتهديد، بل إن أكثر شيء أزعج بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية من أحفاد الزعيم الأفريقي مانديلا: ذلك المقطع القصير الذي يحفز فيه نتنياهو جنوده بالقتال من خلال استخدام عبارات من كتاب «التلمود» لقتال للفلسطينيين.
تجربة نضال جنوب أفريقيا قدمت للإنسانية ثلاثة دروس مهمة، الدرس الأول: أن التشدد ليس شرطاً للحصول على حقك، لذلك تم استبعاد المتشددين من المؤتمر الوطني، الدرس الثاني:
كي تكسب مؤيدين لقضيتك عليك أن تقدم قضيتك بالشكل الذي يخلق لك تعاطف الرأي العام، وليس من خلال ارتكاب جرائم تدينك، الدرس الثالث: أن القناعات الدينية قد تخسرك المعركة وهذا ما استشعره نتنياهو، حيث بدأت الرواية الإسرائيلية تخسر التعاطف العالمي.