ماكرون وإحياء إرث ديغول

ت + ت - الحجم الطبيعي

استذكر دارسو العلوم السياسية مواقف الحكومة الفرنسية لمسألة الاستقلال الاستراتيجي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بعدما انقسم العالم إلى معسكرين، معسكر غربي تقوده الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، والمعسكر الشرقي بقيادة ما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، عندما طالب الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الأوروبيون بعدم الاعتماد على الولايات المتحدة في الأسلحة والطاقة، وكأنه ينبه أصدقاءه الأوروبيين من تداعيات التبعية الأمريكية في صراعها مع منافسيها على النفوذ في العالم، روسيا والصين.

الزعيم الفرنسي شارل ديغول هو مؤسس النهج الاستقلالي الفرنسي، فكانت هناك رؤية سياسية تجاه العديد من الأزمات الدولية خصوصاً في ما يخص الأمن الأوروبي، الذي كان يتأثر بحالة الشد والجذب بين واشنطن وموسكو، وكذلك مواقف تجاه القضايا الشرق أوسطية وخصوصاً القضية الفلسطينية وتبعه في هذا الاستقلال، بعد عقود تلميذه الرئيس جاك شيراك، عندما رفض قرار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في غزو العراق عام 2003.

وها هو إيمانويل ماكرون يحاول بعد عودته من زيارته الأخيرة إلى الصين إعادة خلق «الطرف الثالث» في الأزمة العالمية الحالية بين الغرب والشرق، التي اندلعت على خلفية الحرب الروسية- الأوكرانية، التي تظهر مؤشراتها أن الدول الأوروبية هي أكبر متضرر فيها.

مع قناعتي بوجود تباينات أوروبية تجاه التصعيد الأمريكي في الأزمة الأوكرانية الروسية، حيث أوضحت بعض الدول الأوروبية عدم الاطمئنان من المواقف الأمريكية، التي دائماً مبنية وفق مبدأ «أمريكا أولاً»، لكن الحملة السياسية والإعلامية الأوروبية ضد تصريحات ماكرون تؤكد أن حالة الضغط الأمريكي على الأوروبيين أقوى من الاستقلال بقرارها الذاتي، وأن محاولة ماكرون لم تكن في التوقيت المناسب لا لأوروبا ولا لفرنسا نفسها، لسببين اثنين على الأقل هما: السبب الأول، وهو «متعلق بكاريزما إيمانويل ماكرون نفسه مقارنة بالرئيس شارل ديغول وحتى بالرئيس جاك شيراك عندما كانوا يتحدثون باسم أوروبا».

السبب الثاني: «اللحظة الحالية في الصراع الأمريكي- الروسي أو حتى الأمريكي- الصيني تحتاج إلى الحياد والتوازن أكثر منه الإعلان عن موقف متحيز لأي من طرفي الأزمة فما ينطبق على «أمريكا أولاً» ينطبق على الصين وروسيا وغيرها من دول العالم»، فما بالك في دعوة صريحة أقرب لتحريض الأوروبيين القلقين أصلاً من توتر العلاقة مع واشنطن، التي أعادت إحياء حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وجعلتهم يزيدون من ميزانياتهم العسكرية. الأوروبيون في الأساس مقتنعون ببلورة موقفهم المستقل عن واشنطن، ولكن التزاماتهم الاستراتيجية هي التي تدفعهم للعمل من أجل عدم استثارة واشنطن، مع محاولة بذل مساع خجولة لدى الطرف الآخر للتهدئة.

من خلال الملاحظة في سير العلاقات الأمريكية مع حلفائها التقليديين في كل أنحاء العالم ستجد أن التخلص من عبء الاعتماد عليها هي السمة البارزة اليوم في السياسة الدولية، بل هو حديث متداول في كل وسائل الإعلام العالمية، بل إنه من المتوقع تكون مسألة إعادة الثقة في السياسية الأمريكية أحد برامج الانتخابات الرئاسية القادمة، فالثقة في المواقف الأمريكية تجاه حلفائها هي قيد المراجعة لدى الكثيرين، كما يمكن تسجيل ملاحظة أخرى هي استشعار الأوروبيين بالقلق من مجريات الصراع السياسي الأمريكي- الروسي والخوف من حالة اشتداده، لأن أوروبا ستكون هي الساحة التي سيتم فيها الصراع.

بشكل عام الاتجاه حالياً هو ناحية الشرق من العالم ولكن الأمر ليس بذلك الاستسهال، لأن ما يتم من حديث عن الخلاص من العبء الأمريكي مسألة نسبية بين قارة وأخرى، وبين دولة إلى أخرى وربما الأوربيين، عدا فرنسا، هم الأكثر صعوبة لهذا فإن محاولة الرئيس الفرنسي ماكرون لإحياء إرث شارل ديغول يحتاج إلى انتظار اللحظة المناسبة!

 

* كاتب إماراتي

Email