النموذج التونسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا ينكر أحد أن أولى شرارات ما يسمى بـ«الربيع العربي» اشتعلت من تونس، ولا يستطيع أحد إغفال أن كرة اللهب قد خرجت من العاصمة التونسية إلى عدد كبير من العواصم العربية.

تمددت خريطة ما سمي بـ«الربيع العربي»، رأسياً وأفقياً، كانت مسرحاً للفوضى والتخريب، بعض العواصم استطاعت أن تنجو من كرة اللهب، والبعض الآخر لا تزال النيران ممسكة بأطرافه.

تونس واحدة من العواصم التي باتت نموذجاً مثل القاهرة، في التخلص من ارتدادات وبقايا الربيع العربي، ووضعت مساراً جديداً، وخارطة طريق من أجل الوصول إلى المحطة الوطنية، عبر استحقاقات دستورية وقانونية وتشريعية.

تونس من «الساحة» إلى الدولة، أجريت المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية، مستقبل الاستقرار يصنعه الوطنيون.

رسائل عدة كشفت عنها صناديق الاقتراع في هذه الانتخابات، التي جاءت في توقيت مهم وفاصل. هذه الرسائل تمثلت في نظام انتخابي جديد، يعبر عن نبض الشارع التونسي، ويقطع الطريق أمام الأحزاب والتنظيمات والجماعات صاحبة الأيديولوجيات السوداء، بل إنه نظام وضع شروطاً من شأنها إفساح المجال أمام نخبة سياسية جديدة من الشباب والمرأة، بما يؤسس لجمهورية تونسية جديدة تليق بتاريخها الحضاري، وتستطيع العبور بها من التحديات التي عاشتها منذ ما يسمى بالربيع العربي، كما أن خارطة الطريق التي رسمها الرئيس التونسي، تجد قبولاً وتفاعلاً، وأنها الحل المحوري لضمان وتحقيق الاستقرار وأهداف الشعب التونسي في التنمية والازدهار، واستعادة عافية الدولة، بجيل جديد يدير الماكينة التشريعية بعيداً عن النمط التقليدي والاستغلال السياسي والفساد المالي، الذي ساد حقبة العشرية السوداء.

فضلاً عن أن المراحل السياسية التي شهدتها تونس تؤكد نهاية حزب النهضة وروافده وتحالفاته الأيديولوجية والمدنية، وفشله في تحقيق أي مكاسب في الشارع التونسي، بعد أن تمت تعريتهم، سواء عبر محاولات إفساد العملية الانتخابية، أم محاولات إحياء ذكرى «الياسمين»، ففي المحاولتين لم تجد «النهضة» الإخوانية أي دعم شعبي في الداخل التونسي، الأمر الذي يؤكد فقدان الثقة والبيئة السياسية التي كانوا يظنون أنها حاضنة لهم، ومن ثم، فإن عزل الشعب لهم، وعدم قدرتهم على أن يكون لهم مقعد داخل برلمان 2023، بعد أن كانت لهم الغلبة البرلمانية طوال الانتخابات الأربعة السابقة، يعد بمثابة الموت الإكلينيكي لهذه الحركة وحلفائها.

كما أن الملاحظة التي تستحق التوقف أمامها هي أن الشعب التونسي قرر الخلاص من أي تبعات للعشرية السوداء، وأنه قفز إلى الأمام في رسالة انحياز لاستكمال بناء مؤسسات الدولة، ومراحل خارطة الطريق، أملاً في الحفاظ على الدولة، والبحث عن حلول للأزمات الاقتصادية العالمية التي تؤثر بدورها على تونس، سياسياً واقتصادياً، وأن هناك آمالاً وطموحات عريضة، تم تعليقها على النخبة السياسية الجديدة، التي قدمتها لنا هذه الانتخابات، لا سيما أن الانتظار طال كثيراً لتشريعات من شأنها إنعاش الاستثمار والسياحة والاقتصاد، وفتح أفق تعاون بين تونس ومحيطها العربي والدولي، كما كانت في السابق.

أما الرسالة اللافتة بقوة تتعلق بقوة وصلابة الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي امتلك منذ اللحظة الأولى لتوليه المسؤولية، إرادة وطنية قوية لتحقيق أهداف الشعب التونسي، وترسيخ مفهوم الدولة الوطنية، واتخذ جميع القرارات الجريئة والشجاعة، برغم التحديات الكثيرة ومحاولات العرقلة التي تعرضت لها قراراته، خصوصاً المتعلقة بتجميد برلمان حركة النهضة، وإقالة حكومة المشيشي، وصولاً إلى إقرار دستور جديد ووضع نظام جديد للانتخابات البرلمانية. فالرئيس التونسي استطاع العبور بالدولة من الفخاخ السياسية والمؤامرات والأجندات، التي كانت تهدف إلى العودة بتونس إلى مربع الفوضى والانفلات الأمني، كما أنه نجح في صناعة وعي تونسي لمواجهة إرسال الشباب التونسي للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية في سوريا وليبيا والعراق، ومنطقة الساحل والصحراء، كل هذا فضلاً عن أن الرئيس التونسي استطاع تصحيح المفاهيم المغلوطة في الخارج تجاه المشروع الوطني التونسي، وبات الصوت التونسي مسموعاً في جميع المنتديات العربية والدولية.

إذاً، نحن أمام رسائل مهمة وفاصلة، تستدعي من الشعب التونسي والمحيط العربي والدولي، التوقف أمامها ودفعها إلى الأمام، خصوصاً أنها تجربة مهمة في إثبات القدرة على الانتقال من مرحلة التأزيم إلى مرحلة الاستقرار.

 

* رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي»

Email