الإقامة فوق جغرافيا مفخخة، لا تشير إلى استقرار قريب، الصراع التاريخي على ليبيا، ترك بصمات وندبات، يصعب التخلص منها بسهولة، الذين صاغوا قواعد الفوضى والتخريب، لا يزالون يراهنون على استكمال هذه المشاهد، دخول ما يسمى بـ «الربيع العربي» إلى بلاد عمر المختار، صنع فريقاً سياسياً، يرفض الإقلاع.

تفاصيل مؤلمة، سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وأمنياً، لم يتبقَ في هذا الملف أية أوراق تشي بأن الحل قريب. فبعد أن لاحت في الأفق، خلال الفترات الماضية، بوادر انفراجة بين الأطراف المتصارعة، والحديث عن إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، سرعان ما سيطرت الغيوم السياسية على المشهد الليبي من جديد، وأصبحنا أمام إعادة لسيناريوهات، تكررت منذ ما يسمى بـ «الربيع العربي»، حتى الآن، والتي تمثلت في العودة مرة أخرى إلى قاموس البنادق، وتفشي ظاهرة الميليشيات والمرتزقة، واستعراض القوة، ونشر الفوضى، بهدف السيطرة على شوارع العاصمة طرابلس، فليس خافياً على أحد الاشتباكات التي حدثت في الغرب الليبي، وراح ضحيتها عشرات الليبيين، وتعطلت جراءها العديد من المؤسسات الليبية، الأمر الذي هز ثقة المواطن الليبي في إمكانية الوصول إلى مرحلة استعادة الدولة، والنهوض بمؤسساتها، بما يحقق عودة الخدمات الضرورية للمواطن الليبي، الذي طال حصاره بالأزمات طوال عقد مضى.

هنا، تفرض علامات الاستفهام نفسها، بحثاً عن إجابات وافية:

لماذا تتراجع الأوضاع الليبية، كلما اقتربت من بوادر الحلول؟ ولمصلحة من بقاء ليبيا في حالة خارج ساحة اليقين السياسي والأمني؟ وإلى أين تمضي المسارات الليبية في ظل هذه التعقيدات؟ وكيف يتم ضخ الأكسجين السياسي من جديد؟ وما دوافع إصرار الأطراف المتصارعة في الغرب الليبي وطرابلس، للبقاء في دائرة العنف والعمل الميليشاوي؟ أم أن هناك رغبة كامنة في عدم إحراز أي تقدم نحو الاستقرار؟!

الواقع يشير إلى أن هناك مصالح للأطراف المتصارعة، التي تخشى من أن حالة الاستقرار لا تصب في مصلحتها، فعلى سبيل المثال، نجد أن بقاء الميليشيات والمرتزقة، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإطالة أمد الفوضى والتخريب، وأن قطع أي مسافات في طريق الاستقرار، لا يتناسب مع أهدافهم، فضلاً عن وجود بعض القوى والأطراف الخارجية، التي ترى أن بقاء مصالحها في ليبيا، لا ينفصل عن حالة السيولة السياسية والفوضى الأمنية، التي تعاني منها المدن الغربية الليبية، ومن ثم نجد تفسيراً لمقاومة تشكيل حكومة واحدة قوية، وبرلمان ورئيس منتخب.

هذه الرؤية التي تتبنى الفوضى، تستثمر أيضاً انشغال المجتمع الدولي، بقضايا دولية ضاغطة بالأزمة الروسية - الأوكرانية، وأزمات سلاسل التوريد، وأزمة الطاقة العالمية، وبالتالي، نجد أن هناك حرصاً شديداً من داعمي الفوضى على قطع الطريق أمام جميع المحاولات لحل الأزمة، ووضع نهاية لمعاناة الليبيين.

كل الشواهد تقول بضرورة وضع قواعد جديدة، للتعامل مع المعادلة الليبية، أول هذه الشواهد، يتمثل في أهمية استثمار الرؤى والأفكار الجديدة التي يحملها المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا، لا سيما أنه من القارة الأفريقية، ويعرف جيداً تفاصيل المشهد الليبي، وله خبرة كبيرة في التعاطي مع تعقيدات الأزمات المشابهة.

الشاهد الثاني: يطل علينا من خلال القمة العربية المقبلة بالجزائر، إذ إن الفرصة سانحة أمام القادة والزعماء العرب، لرسم خريطة طريق جديدة، لضخ أكسجين جديد داخل شرايين العمل السياسي الليبي، ووضع حد قاطع للتوغل الميليشاوي والمرتزقة داخل الجغرافيا الليبية.

أما الشاهد الثالث: فهو المتعلق بأفضلية امتلاك ليبيا لكميات كبيرة من النفط والغاز، في توقيت يجعل أوروبا، والعالم، في حاجة شديدة إلى المصادر الليبية للطاقة، وهنا، تتأكد الميزة النسبية لليبيا في المعادلة الدولية، والتي يجب استثمارها، قبل فقدان شهية الغرب لمزيد من واردات الطاقة.

الشاهد الرابع: يتطلب مزيداً من توسيع مسارات الانفتاح والتقارب الليبي مع الإقليم، بهدف مزيد من الضغط على القوى والجماعات الرافضة للعمل تحت علم الدولة الليبية، ضماناً لاستكمال بناء وتوحيد مؤسسات الدولة.

نحن أمام محنة ومنحة، تحدٍ وفرص، إرادة ولا إرادة، تختلف المفردات والمعاني، لكن الثابت بينها، هو أن ليبيا تتعرض لخطر متلاحق، لا يحتمل تأجيل الحلول.