زيارة مستفزة.. والحكمة الصينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

التعامل مع التحولات الاستراتيجية الكبرى التي تحدث في العالم هذه الأيام وتؤدي إلى أزمة بشكل فجائي تحتاج إلى تفكير من نوع مختلف، يتم فيها وضع كل أبعاد الأزمة بعيداً عن لغة الانفعال والتوتر السياسي وحتى التهديد قدر الإمكان، وإلا ستكون طرفاً أساسياً في مشكلة دولية كبيرة.

الذي يدعونا إلى هذا الكلام أن العالم كان قبل أيام في انتظار تكرار المشهد الروسي ـ الأوكراني الذي يعاني الجميع من تداعياته على الطاقة والغذاء. وذلك على خلفية زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، إلى تايوان، لكن الأمر لم يحصل وهذه النقطة مهمة جداً مع أن المشهد الاستراتيجي كان يشير إلى حدوث شيء ما، بل يمكننا القول إن الصين نجحت في امتحان «اختبار الأعصاب» وأنها لم تقع في الفخ الذي رسمته القوى المنافسة لها.

سيناريو زوبعة أمريكية جديدة لكن هذه المرة في المحيط الهادي كان واحداً من الاحتمالات التي رافقت بداية الإعلان عن جولة آسيوية لبيلوسي إلى شرق آسيا ومن ضمنها تايوان. وكان الرأي العام العالمي فعلاً ينتظر ما حدث في أوكرانيا من تداعيات أثرت على العالم في الغذاء والطاقة، ولكن لم يقدروا «الحكمة الصينية» في السياسة الدولية وقدرتها على الهدوء الاستراتيجي، ثم التكيف مع المشهد قبل أن يتفاجأ العالم بردة فعل صينية الكل يستبعدها أن تكون عسكرية، لنواحي أهدافها الاقتصادية.

أغلبنا تذكر كيف استطاعت الصين أن تتجاوز الرغبة الأمريكية في انهيار الحزب الشيوعي الصيني 1991 بعد عاصفة سقوط جدار برلين، بل نتذكر كيف استطاعت أن تخلق من الاشتراكية نظاماً اقتصادياً أقلق الولايات المتحدة نفسها منه اليوم ويهدد سيطرتها على الأسواق العالمية.

حالة من التسطيح الإعلامي ظهرت في تناول طبيعة ردة فعل الصينية من التعامل مع زيارة بيلوسي من محبي حسم الأزمات والمشاكل بالأسلوب العسكري والقوة التقليدية مع أننا في زمن تنوعت فيه أساليب «الحسم»، والشيء الذي نحتاجه في هذه اللحظة يسيطر السياسيون على أعصابهم، خاصة وأن ردة الفعل الصينية سبقتها مناورات للقوات البحرية وحالة من التعبئة العسكرية ولكن لم يحدث شيء من الصين.

أظن أنه من ناحية الدبلوماسية الدولية خرجت الصين في إدارة هذه الأزمة أكثر مصداقية ووضوحاً في العالم بأنها لا تقبل باستفزاز الآخرين خاصة وأن هناك اتفاقاً مع الولايات المتحدة بشأن الصين الواحدة على عكس الإدارة الأمريكية التي باتت وكأنها مثيرة الفوضى في استقرار العالم.

الزيارة في مجملها تعبر عن متغيرين اثنين في الساحة الدولية، الأول: تطرح علامة استفهام إن كانت محركات السياسة الخارجية في الولايات المتحدة ممثلة الغرب ما زالت هي نفسها التي تنطلق من الواقعية السياسية القائمة على المصلحة وأن الصين القطب الشرق آسيوي يفترض منطلقاتها الأيديولوجية الذي يبدو أمامنا أن تلك المتغيرات انقلبت وصارت الصين تتبع السياسة الواقعية، في حين الولايات المتحدة تحولت وأصبحت تتحرك وفق مفهوم الأيديولوجيا.

المتغير الثاني: أن مظاهر الزيارة تعبر عن الحالة التحولية الحاصلة في النظام الدولي منذ فبراير الماضي بعد دخول روسيا في أوكرانيا وأن هذا النظام الأحادي لم يعد مستمراً وبدأ يسجل بداية النهاية، وأن الرغبة الدولية بدأت تأخذ ملامحها في ثنائية القطبية أو التعددية وأن الولايات المتحدة باتت قلقة على مكانتها وما تفعله من استفزازات هو بهدف المحافظة على موقعها في السياسة الدولية.

في غير محله مسألة التشكيك في قدرة الصين على اتخاذ خطوات عسكرية لمعالجة الأزمة. الرد العسكري هو القرار الأسهل لكن النتيجة النهائية والأثر السلبي الأكبر لن تكون في الولايات المتحدة. فتجربة أوكرانيا ما زالت حية. أغلب دول العالم الآن تفضل استخدام الضغوط الدبلوماسية والقوة الناعمة في معالجة الأزمات، لأن الحرب نتيجتها معروفة خاصة في لحظة يعيش العالم في حالة من الاضطراب الاستراتيجي وأي تصرف متهور قد يتسبب في كارثة.

 

Email