الإمارات تستكشف مواقع جديدة على سطح القمر

ت + ت - الحجم الطبيعي

القمر جرم سماوي صغير وهو القمر الطبيعي الوحيد للكرة الأرضية، وخامس أكبر أقمار كواكب المجموعة الشمسية، فقطره بحدود 3476 كيلومتراً أي ربع قطر الأرض تقريباً وتصل كتلته إلى 1/81 من كتلة الأرض، وجاذبيته إلى 1/6 من جاذبية الأرض «أي أن وزن الإنسان على سطحه يعادل 16% من وزنه على سطح الأرض».

للقمر فوائد ومهام كثيرة لاستقرار الأرض في حركتها وتوازنها حول الشمس وفي المجموعة الشمسية، وذات أهمية كبيرة للبشرية وللأرض، لأنه قريب جداً منها بحد كافٍ وحجمه كبير بحد كافٍ، لذلك يهبها الحياة ويساعد على اتزانها وحركاتها، ولأهميته للأرض والبشرية وبالرغم من صغر حجمه فقد أقسم به الله سبحانه وتعالى فقال: (كَلاَّ والقمر. والليل إِذْ أَدْبَرَ. والصبح إِذَآ أَسْفَرَ. إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر. نَذِيراً لِّلْبَشَرِ. لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)، المدثر 32-37

يعد القمر الجرم السماوي الوحيد من بين الأجرام السماوية الذي هبط عليه الإنسان من خلال «برنامج أبولو الفضائي» التابع لوكالة الفضاء ناسا الأمريكية، وكان أول هبوط في يوليو 1969 خلال رحلة أبولو 11 واستمر لعدد من المرات إلى 1972 «عدد رواد الفضاء الذين هبطوا على سطح القمر 12 في الأعوام من 1969 إلى 1972»، ومن التقنيات التي ظهرت ضمن برامج سلسلة المركبة أبولو وخلال هذه المدة فقد أنجزت تجارب مهمة ضمن الرحلات الفضائية شملت تكنولوجيات بناء المركبة وإطلاقها ونزولها على سطح القمر ونزول الإنسان على سطحه، ومنها بدأت الثورة التكنولوجية الفضائية الأرضية لاستكشاف الكون ومحتواه، فضلاً أن كثيراً من هذه التكنولوجيات استخدمت على سطح الأرض لفائدة البشرية في الطب والعلوم الصحية والهندسية والاستشعار عن بُعد لدراسة موارد الأرض الطبيعية بما في ذلك استكشاف أعماق البحار من الفضاء والتكنولوجيات الفضائية العسكرية والأمنية ثم استمر التسارع التكنولوجي وتم ابتكار أجهزة ومعدات ووسائل تقنية عدة نستخدمها في حياتنا اليومية مثل الهواتف النقالة ووسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات والمواصلات والنقل وغيرها. وها نحن اليوم نجد الثورة التكنولوجية في تسارع منقطع النظير لدرجة أن كثيراً من دول العالم لا تستطيع اللحاق بها.

وبعد حوالي أكثر من 50 عاماً ينادي علماء الفلك والفضاء اليوم بالعودة إلى القمر، ليس بهدف استكمال استكشافه فحسب، وإنما لجعله منصة إطلاق «مطار قمري - أرضي أو مطار كوني» إلى الفضاء الخارجي وخصوصاً من على سطحه لغزو الكواكب الأخرى، وبالأخص القريبة من الأرض مثل المريخ والزهرة وبعض الكويكبات الصغيرة.

وأرجو أن لا ننسى فإن القمر سحر الإنسان منذ كان في الكهوف، وأدرك فيما بعد أن القمر هو الشريك الرئيس للأرض في حدوث ظاهرتي خسوف القمر وكسوف الشمس، فضلاً عن ظاهرتي المد والجزر، واستعين به في مواقيت الزراعة وتعيين الاتجاهات في عرض البحار. وسواء أكان القمر بدراً أم هلالاً، فإنه لا يزال يضفي رومانسية في الليل، فأحبه الشعراء وكتبوا عنه كثيراً وهام به العشاق، فضلاً عن استخدام حركاته ومدة دورانه حول الأرض في حساب التقاويم القمرية، الشهور والسنوات القمرية ومنها الهجرية. وأما الآن في القرن الـ 21 يريد العلماء والمؤسسات الفضائية من القمر غير الذي أراده منه القدماء، فهم يرغبون أن يجعلوا منه منصة إطلاق «مطار قمري – أرضي / كوني» إلى الفضاء الخارجي، كما يفكر العلماء في بناء مستوطنات بشرية على سطحه عند القطبين، لأن هناك اعتقاداً الآن بوجود جليد ماء هناك في شقوق لم تصلها أشعة الشمس منذ مليارات السنين، وفي طبيعة الحال سيكون العلماء المستوطنين الأوائل، وحين تستقر الأمور يتم إنشاء البنية التحتية، وستلحق بهم عائلاتهم وذويهم، وستصمم هذه المستوطنات لتصبح مكتفية ذاتياً بكل شيء «أي استيطان القمر واستخدام مادته المؤلفة من الصخور والأتربة وأكاسيد الحديد لبناء محطات ومدن فضائية مدارية».

وبسبب انخفاض الجاذبية على سطح القمر ستزدهر صناعات يصعب تحقيقها على الأرض، ويتم نقل المصانع الذرية والنووية من الأرض إلى القمر، ويتم بناء مناجم لاستخراج المواد الأولية والمتوافرة لصناعة السيراميك والإسمنت لاستخدامها في مستوطنات الفضاء مستقبلاً أو حتى في الأرض.

واليوم بعد أكثر من 50 عاماً أعلنت المنظمات الفضائية ومنها وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) وروسيا والصين والهند واليابان وكذلك دولة الإمارات العربية المتحدة العودة لدراسة سطح القمر والتخطيط لمهام علمية مختلفة لاستكشاف مواقع مختلفة من سطح القمر ودراسة بيئته بدقة عالية جداً وتجميع بيانات شاملة للأبحاث العلمية واكتشاف الجديد عن القمر، وذلك من خلال عزمها على تنظيم رحلات تجارية مأهولة إلى القمر بحلول عام 2030 أو حتى قبل ذلك وبيع مقاعد ومساحات الحقائب للأفراد والشركات وغيرها، فضلاً عن استخدام سطح القمر كقاعدة إطلاق كونية إلى كوكب المريخ بالدرجة الأولى، ومن ثم إلى الكواكب الأخرى والفضاء الخارجي. وسيقود هذه الجهود علماء ومهندسون في وكالة ناسا الفضائية مع بعض وكالات الفضاء الدولية الأخرى من خلال توظيف الصواريخ التجارية للنقل. ونحن نعلم اليوم جميعاً أن العديد من المنظمات الفضائية ومن ضمنها وكالة الفضاء الأمريكية وكذلك دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال مركز محمد بن راشد للفضاء التي تخطط لإنزال المستكشف الإماراتي الفضائي الذي أطلق عليه اسم «المستكشف راشد Rashid Explorer» على سطح القمر في المستقبل القريب جداً لاستكشاف سطحه ودراسة مواقع جديدة لأول مرة على سطح القمر، بالإضافة إلى دراسة وتحليل الغبار، وكذلك إجراء اختبارات لدراسة جوانب مختلفة من سطحه، بما في ذلك التربة القمرية، والخصائص الحرارية للهياكل السطحية، والغلاف الكهروضوئي القمري، وقياسات البلازما والإلكترونيات الضوئية وجزيئات الغبار الموجودة فوق الجزء المضيء من سطح القمر. وطبعاً سيجوب المستكشف الإماراتي سطح القمر، متنقلاً في مواقع جديدة، ويقوم بالتقاط بيانات وصور نادرة، ومن ثم إرسالها إلى محطة التحكم الأرضية في مركز محمد بن راشد للفضاء لتحليلها، بالإضافة إلى اختبار أجهزة ومعدات تقنية تتم تجربتها للمرة الأولى، تتعلق بالروبوتات والاتصالات والتنقل والملاحة بهدف تحديد مدى كفاءة عملها في بيئة القمر القاسية. وحسب المصدر من مركز محمد بن راشد للفضاء بأن المستكشف له قدرة كبيرة على مقاومة آثار البيئة الصعبة وتحمل درجات الحرارة المتفاوتة على سطح القمر، ولذلك ستشمل المهمة العلمية للمستكشف راشد دراسة منطقة «فرانشيسكو موروليكو Maurolycus»، وهي واحدة من أكثر الفوهات تأثيراً على سطح القمر في منطقة المرتفعات الجنوبية، والتي تغطيها تأثيرات فوهة متداخلة وتحديداً منطقة «فوهة أطلس»، وهي فوهة صدمية تقع في الجزء الشمالي الشرقي من سطح القمر.

الاختبارات النهائية للمستكشف راشد أجريت في تولوز بفرنسا لبضعة أسابيع لاختبار الاهتزاز والفراغ الحراري «والتي تعد سلسلة من الفحوصات الخاصة للتأكد من قدرة المستكشف على تحمل البيئة القاسية أثناء إطلاقه على متن الصاروخ الفضائي خلال رحلته في الفضاء بين الأرض والقمر، وبعد ذلك يرسل إلى ألمانيا لدمجه مع مركبة الهبوط اليابانية التي ستطلق من مركز كندي للفضاء في فلوريدا ليطلق على متن صاروخ «سبيس إكس فالكون 9» وإيصاله إلى القمر، ومن المحتمل أن تبدأ نافذة الإطلاق في العمل خلال شهر نوفمبر 2022، إذ تستغرق الرحلة إلى القمر من لحظة إطلاقه من الأرض بحدود 3 أشهر، علماً أن مهمة المستكشف تستغرق 14 يوماً أرضياً «أي نصف يوم قمري لأن اليوم القمري يعادل 29.5 يوماً أرضياً تقريباً».

ويستطيع المستكشف السير بسرعة قصوى تبلغ 10 سم/ثانية وإمكانية الانحدار بزاوية قدرها 20 درجة ويرتفع عن السطح 10 سم. كما أنه مزود بـ 4 عجلات مرنة الحركة على سطح القمر مزودة بمنظومة تعليق لتعزيز كفاءة الالتصاق بالسطح. وحسب المصدر أعلاه، يعتمد «المستكشف راشد» على ألواح الطاقة الشمسية، وسيضم 4 كاميرات تتحرك عمودياً وأفقياً، تشمل كاميرتين أساسيتين، وكاميرا المجهر، وكاميرا التصوير الحراري، إضافة إلى أجهزة استشعار وأنظمة مجهزة لتحليل خصائص التربة والغبار والنشاطات الإشعاعية والكهربائية والصخور على سطح القمر، كما سيتضمن نظاماً لتعزيز كفاءة التصاق عجلات المستكشف بسطح القمر، وتسهيل عملية تخطي الحواجز الطبيعية، وهيكلاً متيناً لحماية الأجهزة والمحركات من تغير درجات الحرارة. وبالتأكيد ستساعد هذه الدراسات على دراسة كواكب أخرى ومنها المريخ والزهرة لأسباب عدة منها، لأن المريخ أقرب الكواكب إلينا وأن غلافه الجوي المؤلف 96% غاز ثاني أوكسيد الكربون و1.9% نيتروجين والبقية آثار من الأوكسجين الحر وأول أوكسيد الكربون والماء والميثان، وهو مشابه الغلاف الجوي الأرضي ويعتقد العلماء أنه سيكون في المستقبل البعيد بيئة خصبة لسكن البشر على سطحه، فضلاً عن زيادة في التقدم والتسارع التكنولوجي وابتكار تقنيات جديدة لفائدة الإنسانية، واليوم «مسبار الأمل» الإماراتي يدور بنجاح حول كوكب المريخ ويزود المؤسسات الفضائية الإماراتية والعالمية بالبيانات الخاصة بالمريخ لتحليلها ودراستها.

وسيختبر «المستكشف راشد» تقنيات جديدة على سطح القمر كونه البيئة الأمثل لمثل هذه الاختبارات، مما سيساعد على اختبار قدرات الإمارات قبل الانطلاق في مهمات استكشافية مأهولة إلى المريخ.

تندرج مهمة الإمارات لدراسة واستكشاف القمر وبيئته ضمن الإستراتيجية الفضائية لمركز محمد بن راشد للفضاء «2021 – 2031»، والتي تهدف إلى الإسهام في تعزيز تنافسية قطاع الصناعات الفضائية في الدولة إقليمياً وعالمياً، وتأهيل القدرات في الإمارات في علوم وتكنولوجيا الفضاء وبناء شراكات عالمية في هذا المجال. فهنيئاً لدولة الإمارات العربية على هذه الإنجازات الفضائية التأريخية والمهمة للبشرية جمعاء. كما أسلفنا يعد القمر منصة مثالية لاختبار التقنيات والمعدات الجديدة التي سيتم استخدامها مستقبلاً في بعثات استكشاف الفضاء الخارجي، لأن الهبوط على سطح القمر يتيح اختبار أجهزة الاستشعار وغيرها من التقنيات لبيئة الفضاء لفترات طويلة. وبناءً على ما سبق فإن القمر ولأهميته الكبيرة للكرة الأرضية والبشرية على سطحها يستحق العودة إليه فضائياً ليتم استكشافه وجعله مدينة تواصل مع الفضاء الخارجي، وخصوصاً مع الكواكب القريبة من الأرض، فضلاً عن دراسة الكون ومحتواه من على سطح القمر وخارج الغلاف الجوي الأرضي، وبالتالي يستحق القمر قسم الله العظيم كما الآيات الكريمات أعلاه.

 

* رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك

مدير جامعة الشارقة

Email