«كورونا» وشهادة وفاة للنظام الدولي

غضب الأمين العام للأم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد إعلان وقف تمويل منظمة الصحة العالمية، كشف عن مرحلة متقدمة في تراجع الاستراتيجية الدولية الأمريكية نحو الحفاظ على مكانتها في النظام الدولي.

رغم كل الممارسات السابقة لتراجع الإدارة الأمريكية لدورها في العالم، إلا أنها كانت تفسر على أنها عبارة عن تمهيد «مشكوك» في نية الانسحاب من قيادة العالم، سواء من خلال الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، التي يعتقد المحللون أنها محور كل السياسات الدولية، وكذلك من اتفاقية باريس للمناخ، وأيضاً الاتفاقية النووية ثم انتقاد حلف «الناتو»، الذي لعب دوراً في صد التمدد الشيوعي نحو أوروبا الغربية إلى أن وصل الأمر إلى رفض ترامب تقديم تمويل لمواجهة أزمة وباء «كورونا» فكانت بمثابة شهادة وفاة لدورها الدولي.

وبقي الإعلان فقط على أن الأزمة الصحية العالمية هي آخر موقف لمعرفة مدى رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على دورها العالمي، وقد أثبت تجاهل أمريكا عن ممارسة أي دور قيادي عالمي أن دورها أوشك على الانتهاء إن لم يكن قد انتهى فعلاً بعد إثبات عدم قدرته ليس فقط في إيجاد لقاح أو دواء لمواجهة الأزمة أو حتى تحفيز الجهود الدولية، وانكفائها على الداخل، بل إن مجلس الأمن الدولي، السلطة الأكبر في العالم، لم يعقد أي جلسة للبحث في آليات مواجهة الجائحة إلا بعد مرور شهر كامل من إعلان منظمة الصحة العالمية بأن الفيروس أزمة عالمية، فهل حان وقت الإعلان عن عدم صلاحية الولايات المتحدة لقيادة العالم؟!

من المؤكد أن جميع الدول في العالم معنية بإدارة هذه الأزمة باعتبار الكل سيتأثر بتداعياتها، بل إن الأكثر تأثراً هو من لا يتعامل معها وفق الجدية التي تحتاج إليها ورأينا أمثلة كثيرة في ذلك، لكن نظراً لحالة الارتباك، التي أصابت دوائر صنع القرار الدولي كان الأمر يتطلب من الدولة العظمى في العالم أن تتصدر المشهد، وأن تقوده سواء بطريقة مباشرة أو من خلال تقديم الدعم المطلوب بكل أنواعه، وليس التخلي عن الدور المفترض أن تقوم به، والاكتفاء بتوجيه الاتهامات حول من المتسبب بهذه الأزمة أو بث الأفكار السلبية، التي تؤثر سلباً على الرأي العام العالمي، بدلاً من رفع الروح المعنوية، التي تعني الكثير في هذه الأوقات.

إذا استمرت الولايات المتحدة في إدارة هذه الأزمة بالطريقة التي تسير عليها، وكذلك في إدارة باقي الملفات الدولية فلن يكون هناك شك في أن العصر الأمريكي أو النظام الدولي الأوحد قد بدأ في الانهيار والتراجع، لأنه لن يصمد أمام الصعود الصيني، الذي بدأ يجتاح العالم بتقديم مساعدات للدول، فكأن هذه البداية في تلك الأزمة جاءت لتكشف عن المدى الذي وصلت واشنطن نحو «التقوقع» الداخلي، لأن أول درس يجب استيعابه أن هذه الأزمة جعلت دول العالم أكثر ترابطاً وحاجة لبعضها بعضاً، وبالتالي من يحاول أن يخرج من هذا الترابط سينهي نفسه بنفسه، مهما كانت مكانته.

ما زالت هناك فرصة كي تثبت الإدارة الأمريكية أنها دولة قائدة العالم، وأن عصرها ما زال قائماً في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وأن ما يتم حالياً ليس استراتيجية أمريكية بقدر ما أنها مواقف شخصية وفردية لا تعبر عن النموذج الأمريكي، فهي رغم كل التداعيات فإنها ما زالت تبدو عندها مقومات العودة السريعة لإدارة الأزمة، فهي غنية بكل ما يجعلها تسيطر على الوضع، كما أنها ما زالت جاذبة للرأي العام العالمي.

ربما كانت هذه الأزمة فرصة للإدارة الأمريكية الحالية باتخاذ قرارات دولية، تعيد مكانتها العالمية بعدما صدرت الكثير من المواقف التي أضرت دورها العالمي، وأعطت مساحة لمنافسيها أن يحاولوا تعبئة الفراغ الذي تتركه، بل الأهم في هذه الأزمة أنه جاء وقت التعاضد والاتحاد خاصة من دولة مثل الولايات المتحدة، فإذا لم تظهر رغبتها في الاستمرار بقيادة العالم فسيكون الثمن غالياً.