الاستطلاع المثير

ت + ت - الحجم الطبيعي

نشرت شبكة BBC استطلاعاً قامت بإعداده مؤسسة «البارومستير العربي» بعنوان «هل بدأ الشباب العربي يدير ظهره للدين؟» وقد أظهر الاستطلاع زيادة في عدد غير المتدينين في الوطن العربي حيث كانت نسبتهم 8% في عام 2013 وأصبح 13% في عام 2019.

الغريب في الأمر ليس الاستطلاع بحد ذاته إنما وجود العديد من الاستطلاعات ذات الشأن نفسه في عدة قنوات وشبكات إعلامية غربية ناطقة باللغة العربية، والأغرب هو الاهتمام الكبير بهذه الاستطلاعات وتثبيتها للظهور في أماكن مميزة في المواقع الإلكترونية التابعة لهذه الشبكات، وتثبيتها كمنشورات مثبتة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتظهر كأول منشور عند مطالعة أي حساب من هذه الحسابات، فهل هذا الأمر مصادفة أم أن هناك مشكلة وصلت لها شعوبنا العربية ويجب الحديث عنها والتطرق لها بأكثر صراحة وجدية لإيجاد الحل المناسب؟!.

قد تكون نسبة التدين قد انخفضت في مجتمعاتنا، فقد تعرضت مجتمعاتنا وشعوبنا خلال السنوات الماضية للعديد من المتغيرات وواكبت أحداثاً مؤلمة وأخرى صادمة جعلتها تنظر للتديّن على أنه البؤرة التي أخرجت لنا الإرهاب خصوصاً مع بيان الوجه القذر للتطرف الديني وما تمارسه الجماعات الإرهابية من ألاعيب وخداع للإغرار بالشباب العربي ودحرهم نحو الهاوية؛ هاوية الإرهاب والتطرف والغلو والكراهية تجاه الآخر، وهنا يكمن السبب لنتائج الاستطلاعات المثيرة والتي ربما كان لها أغراضها، ولنا نحن كمجتمعات إسلامية أغراضنا في مواجهة هذه الظواهر وإيجاد الحلول المناسبة لعدول شبابنا عن مثل هذه المنحدرات الخطيرة والتي ستشكل الصورة الجمعية لمجتمعاتنا المستقبلية.

ليس من العيب ولا من الخطأ أن نضع أيدينا على الجرح وإن كان دفيناً، فبدلاً من ترك أجهزة إعلام عالمية تتلاعب بالفكر الجمعي لمجتمعاتنا وتسليط الضوء على ظاهرة طبيعية جاءت كردة فعل على ما تمارسه بعض الجماعات الإرهابية التي وصفت نفسها بأنها تتخذ من الإسلام ديناً ومنهجاً، والإسلام بريء منها ومن تصرفاتها وأفكارها، ولذلك علينا نحن أن نتعمق في هذه الاستطلاعات ونفتش عن أسبابها، ونقف على هذه المسببات لنجد لها الحل والعلاج.

قد يقول قائل إن النسبة تبين أن الزيادة في عدد غير المتدينين لا تشكل سوى 5% مقارنة بالاستطلاع الذي تم إجراؤه عام 2013، ولكن في حقيقة الأمر أن هذه الفئة ستنشئ لنا الأجيال القادمة ونحن هنا لا نطالب أي أحد بأن يكون متديناً من عدمه، ولكن لا نريد أن تكون هذه الظاهرة مجرد ردة فعل على ما مارسته الجماعات الإرهابية، بل نريد للعقول أن تتخذ الطريق السليم والصحيح لاستكمال حياتها بالشكل الصحيح، وتربية أجيالنا على الأخلاق الحقيقية التي جاء بها الإسلام، والأهم أن نُعرِّف أجيالنا أن الأخطاء التي وقعت بها مجتمعاتنا وتعاطيها مع الدين سياسياً في فترة من الفترات كان خاطئاً، وأن هذه الجماعات والأحزاب لا تريد من الإسلام إلا أن يكون شعاراً براقاً يستدرجون به شبابنا، ومطامعهم أكبر من هذا بكثير.

لقد واجهنا الإرهاب بالتعايش، واجهنا التعصب بالتسامح، وواجهنا الغلو بالوسطية، هذا هو الاستطلاع الحقيقي التي على مؤسساتنا الباروميترية أن تكتشفه وتسلط الضوء عليه بدلاً من الاستطلاعات المثيرة التي لا تعود على مجتمعاتنا إلا بالخراب، فليكتشفوا حجم التسامح الذي زاد في مجتمعاتنا، وحجم قبول الآخر من الأديان الأخرى، وتقبلنا للتعايش مهما اختلفت المنابت والألوان والأديان والأجناس، أليس هذا أولى أن يقاس ويُجرى من أجله أكبر الاستطلاعات، هذا ما نريد أن نُخلفه لأجيالنا ليعلموا أن تجاربنا المريرة مع الإرهاب جعلتنا نفتح أعيننا على العالم ونرى ما يفيدنا وما يؤسس لأمننا المجتمعي.

مجتمعاتنا ليست بحاجة لأي أجندات مثيرة بل بحاجة كل الحاجة لجرعة من الثقة بتجربتها حتى وإن كانت مؤلمة، بحاجة للمضي قدماً نحو مفاهيم التعايش والتسامح، بحاجة لأن تفتح عقولها نحو ما ينفعها في هذه الحياة وأن تعلم علم اليقين أن المتسلقين على الدين وقضاياه المثيرة والحساسة ما هم إلا وَهْمٌ يخدعون به ضعاف النفوس والعقول ولهم في هذا مآرب كثيرة، لنكن على قدر من الفطنة لنواجههم بما لدينا من قناعات راسخة وفكر مستنير نواجه به ظلمات الفكر والأفكار.

 

 

Email