رئيسة وزراء التسامح

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم أن نيوزيلندا عانت كثيراً من الحادث الإجرامي الإرهابي بحادثة المسجدين، إلا أن الحنكة السياسية لرئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن كانت أكبر من الحادثة، وأكبر من أي احتقان مجتمعي كان سيحدث كردة فعل تجاه هذا العمل الإجرامي، خصوصاً أن منفذ العملية أشار في تصريحاته أثناء التحقيقات إلى كرهه للإسلام والمسلمين، وأشار إشارات واضحة للاحتقان أو ما يسمى صراع الأديان، ومع هذا كان الشعب النيوزيلندي وبقيادة حكيمة من جاسيندا على درجة عالية من التسامح واحترام الآخر، فردة فعلها لم تكن متوقعة بهذا الشكل، حيث شهدنا خلال الأسبوع الماضي حالة استنفار من جميع مؤسسات الدولة، وحراكاً شعبياً واسعاً للتقارب مع المسلمين، والتأكيد على أن الدولة التي تحتضنهم لا تفرق بين الأديان، فالجميع أخوة يعيشون بمجتمع يسوده الود والاحترام، والطريقة التي تعاملت معها الحكومة النيوزيلندية مع الموقف فن من فنون إدارة الأزمات، وأقوى الردود في مواجهة الإرهاب والإرهابيين.

ارتداء السيدة الأولى في نيوزيلندا جاسيندا الحجاب وهو رمز للإسلام والمسلمين، وظهور مذيعات التلفزيون الرسمي بذات اللباس، وبث الأذان وشعائر صلاة الجمعة مباشرة على جميع وسائل الإعلام النيوزيلندية لم يكن رداً عادياً، بل استثنائياً للرد على الإرهاب والعنصرية تجاه أي دين، بل كانت هذه التصرفات والقرارات والتوجيهات نصرة للإنسانية، وتعبر عن أرقى أنواع التسامح والتعايش واحترام الآخر، نيوزيلندا بهذا الفعل أرسلت رسالة للعالم أن التسامح أقوى الأسلحة في مواجهة الفكر الإرهابي المتطرف مهما كانت دوافعه وأسبابه ومنابع فكره.

الشعب النيوزيلندي حوّل المأساة إلى نموذج من التلاحم المجتمعي، نموذجاً للترابط بين فئات المجتمع، فوقوف مجموعة من المسيحيين خلف المصلين لحراستهم أثناء تأدية عباداتهم، ووقوف البعض الآخر لمؤازرة أسر الشهداء وشد عزائمهم ومواساتهم في مصيبتهم لهو نوع فاخر من قيم التعايش والتسامح والتعاضد المجتمعي الذي طالما أردناه عنواناً لجميع الشعوب وأساساً للتعامل فيما بينهم، حقيقة إن ما خلفه حادث المسجدين المأساوي هو لطمة في وجه الإرهاب ورواد فكره، وانتصار فعلي لما تسعى دولتنا لنشره وإيجاده كقيمة أساسية لشعوب العالم أجمع.

التسامح الذي تنادي به دولة الإمارات ومنذ سنوات، وهي تكافح من أجله على جميع الصعد وبجميع الميادين وبمختلف الأسلحة الدبلوماسية، وأحياناً العسكرية للوقوف في وجه العنصرية والتطرف وردع الإرهابيين، وذلك لتأسيس مجتمع متسامح لديه مبادئ احترام الآخر، وفن التعامل البشري، وأصول التعايش السلمي بين أفراد المجتمع مهما اختلفت أصولهم ومراجعهم الفكرية والعقائدية.

عندما دافعنا مستميتين عن الإمارات وتمسكها بالفكر المتسامح لم نكن مخطئين، وعندما سعت قيادتنا، وحرص صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان على لقاء الأخوة بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر سمعنا أصواتاً مغرضة لهذا اللقاء، ولكن بعد حادثة نيوزيلندا وردة فعل النيوزيلنديين تجاهها تأكدت الرؤية بأن هدف الإمارات واضح جلي أمام العالم، مؤكداً أن لا سلام ولا سلم عالميين ما دامت الأحقاد التاريخية والنعرات العنصرية الدينية قائمة بين البشر، وما حدث خلال الأيام الماضية قد ألجم المغرضين دعاة التطرف داعمي الفرقة والتفرقة بين البشر، والإمارات يوماً بعد يوم تزداد في إصرارها لتحقيق هدفها من جعل التسامح قيمة عالمية يتنافس العالم من أجل الوصول إليها ليأمنوا على حياتهم ويطمئنوا على مستقبل شعوبهم ومجتمعاتهم ودولهم.

لم يكن ما قامت به الإمارات بإرسالها وفداً رسمياً خاصاً لزيارة نيوزيلندا برئاسة الدكتور علي النعيمي والوقوف مع شعبها في محنته ومصيبته، ومؤازرة أسر الشهداء إلا تأكيداً على موقف الإمارات من العالم والمجتمعات الأخرى، والتي لا نبادلهم إلا الود والاحترام، فدار زايد عاصمة التسامح العالمي، ومن واجبنا المشاركة في جميع الحراك العالمي الساعي لنشر قيمنا قيم التسامح، فلا تستغربوا أن نتواجد في جميع المحافل رافعين شعارنا في وجه أعداء السلم محبي الخراب، لهم فكرهم ولدينا ما يردعهم ويوقف زحفهم.

إن كانت دولتنا قد خصصت جائزة للتسامح فجاسيندا رئيسة وزراء نيوزيلندا رئيسة وزراء التسامح كما ارتأيت أن أسميها هي من الشخصيات التي ستدخل دائرة المنافسة على نيلها بكل قوة إن ما كانت ستحصل عليها بتزكية عالمية، فهي وشعبها خير من يستحق هذه الجائزة لتكون فاتحة خير وبداية النهاية للفكر الظلامي المتطرف، وبداية للنور والتنوير في عقول وقلوب شعوب العالم، وبذرة لشجرة التسامح التي تريد قيادتنا أن تزرعها في جميع بقاع الأرض لما لها من خير يعم بخيره على أجيالنا الحالية وممتد لأجيال المستقبل ومستقبل المستقبل، من سيرثون عنا فكرنا ومعتقدنا، وليكن موروثنا موروثاً تسامحياً قائماً على التعايش بعيداً عما وصلنا من إرث قائم على الكراهية والبغضاء وإقصاء للآخر.

ومن هنا من أرض الإمارات نوجه التحية للحكومة النيوزيلندية وللشعب النيوزيلندي على الدروس التي تعلمناها منهم، ونؤكد أن شعبنا وقيادتنا راعية للخير وللسلام العالمي، وسنبقى وإن طال الأمد صخرة وعثرة في وجه الإرهاب والإرهابيين، وسنداً لكل إنسان يبادلنا الحب والوئام.

Email