خذلان الحليف

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا علاقات دولية بغير تحالفات، فبدون الدخول في تحالفات تنعزل الدولة ويسهل اصطيادها. الدول تتحالف لتمرير قرار أو اتفاقية دولية، أو للتأثير في الأسواق بطريقة تخدم المصلحة؛ لكن أهم التحالفات وأخطرها هي التحالفات السياسية والأمنية والعسكرية، ففوائدها عظيمة، ومخاطر هائلة، فتعظيم القدرة على الفعل عبر جمع قدرات الحلفاء مكسب أكيد، لكن التعرض للخذلان من جانب الحليف خطر كبير.

الدول تختار الحلفاء بعناية شديدة، وتزن وعودهم بميزان الذهب، ولا تطالبهم إلا بما يستطيعون الالتزام به، ولا تذهب بعيداً في الاعتماد على وعودهم، ويجب أن تكون لديها دائماً إجابة عن السؤال الصعب: ماذا لو خذلني الحليف؟ هل لدي خطة بديلة، هل أستطيع المواصلة بتكلفة أعلى لكن دون التعرض لنكسة مدمرة؟ ورغم كل هذه الاحتياطات فخذلان الحلفاء لا يتوقف عن الحدوث.

مغامرة

قد يكون الحلفاء هم السبب في الهزيمة أحياناً. يحدث هذا عندما تتورط الدولة في مغامرة لم تكن لتدخلها لولا تأكيدات الحليف وتشجيعه، ولولا ثقتها في أنه لن يكون عليها مواجهة المخاطر بمفردها، وأن ضمانات الحليف لا تسمح بضياع التضحيات المقدمة هدراً.

خذلان الحليف يحدث كثيراً في العلاقات بين الدول وأطراف الصراعات السياسية؛ وتاريخ الشرق الأوسط الحديث في أحد جوانبه هو تاريخ خذلان القوى الكبرى لحلفائهم في المنطقة.

في النصف الأول من القرن التاسع عشر كان محمد علي باشا يبني في مصر دولة حديثة قوية، وكان يخوض صراعاً مع سلاطين اسطنبول المتخوفين من إصلاحات محمد علي وطموحاته. كان الباشا قد وسع حكمه ليشمل الجزيرة العربية وسوريا والسودان وجزيرة كريت.

وكان إبراهيم باشا، ابن محمد علي وأهم قادة جيوشه، يحكم سوريا من مقره في أنطاكية، ومنها أيضاً كان يراقب تحرشات الدولة العثمانية بالوالي الطموح. في معاهدة كوتاهية عام 1833 وافق السلطان على تولي محمد علي حكم هذه الأقاليم، لكنه كان يتحين الفرصة للانقضاض على المعاهدة التي فرضها الباشا المنتصر عليه فرضاً. ف

ي 1839حشد السلطان جيشه، وتصادم مع جيش محمد علي في نصيبين التي تقع حالياً ضمن محافظة مردين التركية على الحدود مع سوريا؛ وفي نهاية المعركة انتصر جيش إبراهيم باشا، واحتل المزيد من الأراضي في عين تاب ومرعش وأورفة.

انزعجت القوى الأوربية من انتصار محمد علي، واتفقت روسيا وانجلترا والنمسا وبروسيا على الدفاع عن السلطنة العثمانية وتقليص طموحات والي مصر، وإجباره على الانسحاب من الأناضول وسوريا الشمالية وجزيرة العرب وكريت.

لم يكن محمد علي من الحماقة لكي يقاوم اتفاقاً عقدته القوى الأوربية الكبرى، لكن تشجيع حليفته فرنسا جعله يرفض الاتفاق المعروض عليه، معتمداً على وعود فرنسا بالوقوف جانبه عسكرياً لو لزم الأمر. شنت القوى الأوربية حرباً على جيش محمد علي في الشام، وحرضوا الأهالي على الثورة ضده، فانهزم المصريون في البحر والبر.

ولم يأت المدد الفرنسي أبداً، وأجبر الجيش المصري في النهاية على الانسحاب من الشام تحت ضربات الحلفاء الأوربيين والأهالي الثائرين وغارات العربان، فوصل إلى مصر في النهاية ستون ألفاً من العسكريين والمدنيين المصريين من إجمالي الحملة التي بلغ عددها مئتي ألف؛ والسبب هو خذلان الحليف.

خذلان الحليف

في تاريخ سوريا القريب مثال مؤلم لخذلان الحليف. نشبت الثورة الثورية في فبراير 2011 متأثرة بموجة احتجاجات الربيع العربي. بدأت الثورة سلمية، لكن النظام قابلها بأشد درجات القمع. تعاطف الرأي العام في العالم مع الثورة السورية واستقبلها بترحاب. رحبت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما بالثورة بحماس؛ وقام السفير الأمريكي بزيارة مدينة حماة وسط الاحتجاجات متحدياً تحذيرات نظام الأسد.

طالب الرئيس أوباما برحيل الرئيس الأسد عن السلطة، وفهمت هذه الإشارات على أنها التزام أمريكي بدعم الثورة السورية، الأمر الذي شجع الثوار على الانتقال من مرحلة الاحتجاج السلمي لمرحلة الثورة المسلحة، وتسابقت دول في الإقليم لتسليح الثوار مساهمة منها في الانتصار على الأسد، ولكي تحجز لنفسها مكاناً في سوريا ما بعد الأسد.

لكن الأمريكيين لم يفوا بوعودهم، ووجد الثوار أنفسهم مغروسين في مأزق كبير، فلا هم تواضعوا واختاروا أهدافا تناسب وسائلهم السلمية.

ولا لديهم ما يكفي من الموارد لتحقيق أهداف الحد الأقصى التي سيقوا لها.

خذلان الحليف الأمريكي وصل إلى ذروته عندما أخفق الرئيس أوباما في تنفيذ تحذيره بأن استخدام النظام للسلاح الكيماوي خط أحمر؛ فعندها قرر الروس الإلقاء بثقلهم في الفراغ الذي خلفته واشنطن، وتيقن الأسد أنه باق، وتعلم أهل الشرق الأوسط درساً جديداً في خذلان الحلفاء، ومازالوا يتلقون الدروس الجديدة، وما قرار الرئيس ترامب المفاجئ بالانسحاب من سوريا سوى خذلان للحليف الكردي، والحبل على الجرار.

* كاتب ومحلّل سياسي

Email