هل يكتب الإعلام التاريخ؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

المقولة التي تقول إن التاريخ يكتبه الأقوياء والمنتصرون هي مقولة صحيحة ولكنها أيضا تحتاج إلي تحليل وتدقيق لكي نستنتج كامل الحقيقة من باطنها ونستنبط منها الحقائق المنطقية. فمن المؤكد أن القوة والنفوذ هما من يملكان فرض الحقيقة. ولكن ما هي مفردات تلك الحقيقة ومن هي القوة صاحبة السلطة والنفوذ؟ هل هي السلطة السياسية أم الإعلامية أم الدينية؟

في العهود الغابرة كانت السلطة السياسية هي من يكتب التاريخ، ليس تاريخ المنطقة التى تفرض نفوذها عليها فحسب بل تاريخ البشرية بشكل عام حسب ما تمليه عليها أهواؤها ومصالحها. فمن كان يمتلك القوة والنفوذ كان يمتلك الحق وبالتالي يمتلك أقلام المؤرخين التى يجيرها لكتابة الأحداث التي هي التاريخ. وفي عصور لاحقة أصبح لرجال الدين نفوذاً فرضوه على المؤرخين. فأصبحت كتابة التاريخ جزءاً من التأريخ للمؤسسة الدينية وسطوتها. والفرق بين التاريخ والتأريخ في أن المصطلح الأول هو الحدث أما المصطلح الثاني فهو الفعل. فالمؤرخ هو الذي يكتب التاريخ طبقاً لرغبات السلطة وأصحاب النفوذ وليس فقط طبقاً لتسلسل الأحداث واعتماده على مصادر معينة مثبتة.

كان التاريخ يكتب لأغراض عدة منها التسلية وسرد مناقب الملوك والعظماء وتمجيد دورهم ومنها دروس وعبر للأجيال اللاحقة. وكانت ريشة الكاتب أو قلمه هي الأداة الجبارة التي غيرت وجه البشرية حيث أظهرت مناقب قوم ودثرت مناقب آخرين. فكان ذاك التسجيل هو وسيلة إعلام تلك العصور والمتحدثة باسم العظماء والأقوياء والموجهة للرأي العام.

تغيّرت الظروف واختفت تلك الوسائل الكلاسيكية المؤثرة لتحل محلها أخرى أكثر تأثيراً في الرأي العام وأكثر قوة وسطوة. فقد جاء الإعلام بأدواته المختلفة ليكون وسيلة لبناء رأي عام مختلف. فقد أصبح الإعلام بأدواته الجبارة ووسائطه المتعددة وسيلة مهمة للتأثير على الرأي العام وفرض رأي عام مختلف كيفما تشاء السلطة أو القوة وتجيره لكتابة تاريخ مختلف للأحداث ومجراها يتوافق مع مصالحها وأهوائها.

أصبح الإعلام بوسائله المتعددة المقروءة والمسموعة والمرئية مرآة لأي مجتمع حيث تستطيع تلك الوسائل أن تعكس لنا نبض المجتمع وسطوة الدولة. ففي معظم الدول تكون تلك الوسائل مسيرة لترسم صورة تلك الدولة قد لا تكون هي الصورة الحقيقية. فليس كل ما تذيعه وسائل الإعلام يعبر بالضرورة عن آرائها أو فيها روح الحيادية. حتى وسائل الإعلام الكبرى والعالمية ذات المصداقية، والتي تعد بالنسبة للكثير من المؤرخين مصدراً مهماً من مصادر استقاء الخبر، تقع في بعض الأحيان في فخ تلك التناقضات ولا تستطيع النأي بنفسها عن اتخاذ جانب سياسي ضد آخر أو الوقوف بجانب تيار ضد آخر، والتالي تقدم لنا الحدث بطريقة تتناسب مع مصالح دولها ومموليها وبالتالي خالية من الحيادية والمصداقية التي نتوخاها منها.

في حديثه الرمضاني الشيق عبر صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة عن معاناة وهموم وهواجس المؤرخ الجاد الباحث عن الحقيقة وسط أكوام من القش. فعمل المؤرخ، خاصة في عصرنا هذا، ليس بالأمر السهل حين تفتقد المصداقية وتغيب الحقيقة وسط زخم من المعلومات المتدفقة وتاريخ مغاير يكتب، وحوادث تزور وأشخاص قد يكونون ثانويين من حيث الأهمية والتأثير على الأحداث، ولكن الإعلام بوسائطه المتعددة يضعهم في قلب الحدث. وهنا يستلزم على المؤرخ أن يستخدم الأدوات العلمية المتسلح بها والتي تسمى في علم التاريخ «أدوات البحث العلمي» في محاولته الوصول إلى الحقيقة أو مقاربتها. فالقدرة على التحليل والتنقيح والاستنباط والمقارنة وربط الحقائق كلها تدخل في صميم عمل المؤرخ الرامي إلى البحث عن الحقيقة أن لم يكن كلها فعلي الأقل بعضها.

التشابه بين عملية التأريخ في الماضي والحاضر ليس في حقيقة الحدث ولكن فيمن يكتبه. ففي الماضي كانت السلطة بوسائطها المتعددة كالشعر والتسجيل هي من تكتب التاريخ بينما قوة وسطوة الإعلام هي من يكتب التاريخ في عصرنا هذا. ولهذا فإن التركيز على توخي الدقة ومراعاة وسائل الإعلام لدورها الحيوي في إيصال الحقيقة إلى الرأي العام هي الرسالة التي تحرص قيادتنا على إيصالها إلى وسائل الإعلام في كل مناسبة. فدورها لا يقتصر على إيصال الخبر للرأي العام فقط بل إيصاله بكل مصداقية وشفافية وحيادية. فالأهواء الشخصية وغياب المصداقية وبعض الأخطاء المهنية تمثل خطراً يهدد وصول الحقيقة إلى الرأي العام كما تهدد بتزوير التاريخ. ولهذا فإن توخي الدقة والابتعاد عن المعلومة المعلّبة والتعامل بمهنية لا شك سوف يكون مؤثراً في رسم تاريخ مغاير أكثر حيادية.

 

جامعة الإمارات

Email