نحن في زمن السلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل تعلم أننا نعيش الآن في زمن السلام والأمان، زمن الحياة؟، ربما هذه المعلومة قد فاتتك، فكل ما يدور بذهنك هو مشاهد القتل والتشرد التي تعاني منها الكثير من البلدان، وبالأخص بعض بلداننا العربية، ولكن وفقاً للتقارير العالمية، هذه الأرقام ضئيلة جداً مقارنة بعدد القتلى التي خلفتهم الحرب العالمية الثانية، والتي تقدر بـ 78 مليون قتيل.

منذ الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم، ونحن نعيش بزمن السلام، فمهما كانت تقارير أعداد القتلى في أي حرب أو عملية إرهابية دارت خلال هذه المدة، فلن تتجاوز حصيلة حرب عالمية طاحنة دارت أيام المغول، وصولاً لحروب الصين واليابان، مروراً بحروب المماليك وغيرهم، من الحروب الدموية التي كان عدد الوفيات في أقلها يصل المليون.

أرقام مفزعة خلفتها حروب التاريخ، ومقارنة بتقارير أعداد القتلى جراء الحروب منذ الحرب العالمية الثانية، يتبين لنا أننا فعلاً بزمن السلام والأمان، كرتنا الأرضية ارتوت عبر التاريخ بالدماء، أكثر مما أرتوت من الماء، هذا من جانب، ومن جانب آخر، ما خلفته هذه الحروب من دمار لمقدرات تقدر بالبلايين، خلافاً لما خلفته من معاقين ومرضى وجوعى ومشردين.

في زمن الحروب العظمى، كانت الحرب لها مكاسب مادية كبيرة جداً، فبعض الحروب لم تكلف أحد أطرافها 15 ألف مقاتل، مقابل الحصول على قارة بكاملها، بعضها لم يكلف حتى جندياً واحداً من دولة ما لتحصل على أراضٍ شاسعة وثروات وأموال طائلة، كان هذا مطمع كل دولة تقرر أن تخوض حرباً، وجميع الخسائر مقابل هذه الثروات، تهون وتصغر، فكم تساوي تكلفة تجهيز جيش كامل العتاد من سيوف ودروع وخيل وعربات، وكم تساوي تكلفة بناء أسطول من السفن مجهزة بقذائف مدفعية؟، كل هذا لا يساوي جزءاً صغيراً مما ستجنيه الدولة الفائزة بالحرب.

الحمد لله أن اليوم باتت الأسلحة أعقد وأقوى وتكلفتها باهظة جداً، فتكلفة قنبلة نووية واحدة، تساوي مليار دولار، وطائرة حربية واحدة، تساوي ما لا يقل عن 50 مليون دولار، وقد تصل لأضعاف هذا الرقم، ناهيك عن أسعار الأسلحة الثقيلة، كالدبابات وناقلات الجنود البرية والجوية والبحرية، كل هذه التكاليف غير مشمولة بالتكلفة التشغيلية، فمشروع إنتاج قنبلة نووية أو ذرية، يحتاج لمليارات الدولارات، بالإضافة إلى تكلفة البحوث العلمية التي تقوم بتجهيز هذه الأسلحة وتبتكرها، ولا يسعنا أن نذكر لكم في هذا المقال، أسعار إعداد جيش كامل متكامل مسلح بأحدث الأسلحة، باختلاف أنواعها وطبيعتها، والتي تستنزف ميزانية سنوات لدول صناعية كبرى.

ومع هذا كله، علينا أن نعترف بأن أغلب هذه الأسلحة «الفتاكة»، لم تستخدم منذ الحرب العالمية الثانية، وتفكر كل دولة مليون مرة، قبل أن تطلق صواريخها تجاه أي دولة أخرى، وتكتفي فقط بالتهديد والتسابق نحو التسلح، وهذا أمر جيد من زاوية معينة، فتكلفة الحرب العالمية، أوقفت سيلان دماء الملايين.

أكبر دول العالم، لم تجرؤ حتى الآن لخوض حرب فعلية وصريحة، فكل طلقة تستخدم في الحرب، ستشكل في النهاية فاتورة ضخمة، يصعب على أي دولة تحملها، ومقابل ماذا ستدفع هذه التكاليف، فلم يعد بالمقدور، أن تحتل دولةٌ دولةً أخرى بكل بساطة وسهولة، كما كان سابقاً، ولم تعد الخيرات المنهوبة بعد الحرب، تغطي ثمن الأسلحة المستخدمة، إذن فاتورة الحرب من الناحية المادية خاسرة، ولهذا لا تفكر حتى دول عظمى في خوض حرب، إلا بعد أن تتأكد أن الفاتورة ستدفع بشكل أو بآخر.

مع كل حرب أو زعزعة أمنية في مكان ما، تفقد الحرب بريقها مقابل السلام، فمع زيادة التكاليف الحربية، ومع تشافي وتعافي بعض الأجيال من فكرة الحرب ومكاسبها، أصبح العالم يدرك تماماً، أن لا حرب ناجحة، ولا فوز بأي حرب أو مواجهة عسكرية، وأميركا وتجاربها الأخيرة في كل من أفغانستان والعراق، خير دليل على ذلك، فالكل خاسر، والكل سيدفع فاتورة حربه، ضحايا أو أموال.

نحن نعيش في زمن السلام، فمرض صغير قديماً كان يسمى وباء، يقتل الآلاف بيوم واحد، ولكن اليوم، وبعد أن وصلنا لهذا التطور الرهيب في الطب والرعاية الصحية، يكاد يكون هذا الأمر شبه مستحيل، ومقارنة نسبة الموتى من الأمراض قديماً وحديثاً، يمكننا القول إننا فعلاً نعيش في زمن السلام والأمان.

مقالي لليوم، ليس للاستعراض أو للتذكير بحجم المبالغ التي تصرف بغرض التسليح، إنما لنذكر أن ما نشهده اليوم من حالة الاستياء، جراء الأوضاع الدائرة حولنا من اشتباكات ومناوشات، ما هي إلا مشهد بسيط من رواية تاريخية دموية، ورغم هذا كله، كانت الشعوب ترى الجانب المضيء، وتدرك فعلياً، كيفية إدارة أزماتها الشخصية، فما حدث باليابان بعد الحرب العالمية الثانية، أقرب مثال لنهوض الشعوب رغم الألم، وعالمنا العربي بحاجة لهذه الجرعة من العزيمة والإصرار، للخروج إلى دنيا السلام، ورسم طريق واضح المعالم لمستقبل شعوبنا.

ربما يكون الإعلام والسرعة التي تنتقل بها الأخبار والأحداث، هي السبب في تولد هذه النظرة السوداوية حول مصير الشعوب ومستقبلها، فلم يعد، ولم يكن يوماً الإعلام، إلا ناقلاً لكل حدث مأساوي، فلا تمعنوا النظر بمناظر الدماء، بل اجعلوا نصيب نظراتكم يتجه نحو أولئك الحالمين بأن يكون لهم وطن وأرض ومستقبل يعيشونه بسلام، فنحن في زمن السلام، رغم كل ما يحدث، إيجابية سموها أو إصراراً على تصحيح مسار، فإننا فعلاً نحتاج لبريق من الأمل، يخبرنا أن السلام أصبح أكثر ربحاً من أي حرب، مهما كانت المكاسب.

 

 

Email