ترامب و«التاريخ المتحفي»

لا شك في أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة إليها يمثل خطورة كبيرة على مجمل تطورات الصراع العربي- الإسرائيلي ويعد لحظة مفصلية في تاريخ هذا الصراع، ولا شك أيضاً في أنه يستوجب أقصى درجات الغضب، الذي انعكس بوضوح في حالة الرفض الدولي الكاسحة لهذا القرار الجائر، فلم يقتصر الرفض على جهة دون أخرى وإنما بالفعل توحد العالم بكل أركانه في انتقاد ترامب الذي بدا وحيداً ومعزولاً، إضافة إلى جملة من الأخطاء التي ارتكبها ونوجزها في النقاط التالية:

إن قرارت ترامب الأخيرة بالتأكيد هي قرارات باطلة وانعكاس لحالة يأس سياسي فرضته ظروف داخلية وجعلته يتصرف بانتهازية سياسية وبحالة غريبة من التناقض السياسي والتاريخي الفريد من نوعه خاصة في ما يتعلق بوضعية القدس والتطورات الميدانية للصراع الشرق أوسطي، وبهذا الخلط الغريب بين«سياسة الأمر الواقع» والقبول بها، فالرئيس ترامب وكما هو معلوم للقاصي والداني يواجه شبح العزل من منصبه بسبب فضائح التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر الماضي، تلك القضية التي تلاحقه حتى قبل أدائه اليمين الدستورية في أول واقعة من نوعها تطارد رئيساً أميركياً عبر تاريخ الولايات المتحدة، هذه الحقيقة جعلت الرئيس الأميركي لقمة سائغة لجماعات الضغط الصهيونية، التي يبدو أنها باتت تمتلك مفاتيح إدانته وعزله أو براءته واستمراره، فقرار نقل السفارة واعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني ليس هناك ما يبرر صدوره الآن مع تواتر الحديث عن صفقة القرن لتسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي إلا تلك الضغوط التي يتعرض لها ترامب، فأراد أن ينجو برقبته من خلال البوابة الصهيونية، أليس غريباً أن يقوم ترامب بكل هذا التصعيد ضد كوريا الشمالية ويهددها بأعمال انتقامية لا تخطر على بال عقاباً لها على تجاربها الصاروخية والنووية، ويوم يقرر التصرف فإنه يقدم على معاقبة الفلسطينيين ؟!

في تبريره لخطوته تحدث ترامب عن القدس «المدينة التي أنشأها اليهود» قبل آلاف السنين، وفي ذلك تزييف واضح للحقائق التاريخية والجهل بها وبتبعاتها، ويكفي أن نشير هنا إلى وجهة نظر المفكر العربي الراحل الدكتور عبدالوهاب المسيري في تناوله لهذه المسألة، حيث أكد أنها تدرج في وصف "التاريخ المتحفي"، مثلها في ذلك تماماً مثل «التاريخ الفرعوني».

ولماذا نذهب بعيداً وهناك واقعة لها دلالتها الخاصة، ففي خضم معركة رئاسة «يونيسكو» قبل أسابيع قليلة، والتي فازت بها في نهاية المطاف وزيرة الثقافة الفرنسية، اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراراً بالانسحاب من المنظمة احتجاجاً على مواقفها الرافضة للممارسات الإسرائيلية والمؤيدة للحقوق الفلسطينية في مدينة القدس والمسجد الأقصى الشريف خاصة ما يتعلق برفض تغيير معالم المدينة وهويتها العربية/‏الإسلامية، والحفاظ على معالمها الكبرى بأسمائها التاريخية في رفض صريح لمحاولات تهويد المدينة، فهل كان قرار الانسحاب من "يونيسكو" هو التمهيد الصريح لخطوة الرئيس الأميركي الصادمة للعالم أجمع بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها ؟

أغلب الظن أن الارتباط بين الخطوتين قائم وواضح، فهناك بالفعل صلة وثيقة بين قرارات "يونيسكو" والموقف الأميركي الجديد والاندفاع الإسرائيلي نحو فرض مزيد من الهيمنة الصهيونية على القدس و"الأقصى" وتكريس أمر واقع مختلف في إطار مخطط شامل لتهويد المدينة وإلغاء فكرة اعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية المنشودة ومصادرة أحلام وتطلعات كل الشعوب الراغبة في تخليص مدينة مسرى الرسول الكريم وثالث الحرمين من الاحتلال الغاشم.

قرارات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونيسكو» تمثل بالفعل قيمة مضافة عظيمة للمواقف الفلسطينية والعربية والإسلامية يمكن البناء عليها، بينما تمثل خصماً واضحاً من رصيد الاحتلال بما يمهد الطريق أمام أصحاب القضية لتحقيق المزيد من المكاسب المشروعة والعادلة، ومن المهم في هذا المقام الإشارة إلى أن قرارات "يونيسكو" الأخيرة التي صدرت على مدار الأشهر الماضية قد تبنت مجموعة من المبادئ المتعلقة برفض تهويد القدس بتأكيدها على عدم شرعية أي تغيير أحدثه الاحتلال «الإسرائيلي» في بلدة القدس القديمة ومحيطها، وذلك بناء على الـمواثيق الدولية مثل مواثيق جنيف ولاهاي وقرارات "يونيسكو" والأمم الـمتحدة، والتأكيد على أن أي تصرف لا يؤثر على الوضع القانوني للقدس كونها مدينة محتلة بحسب قرارات الأمم الـمتحدة ومجلس الأمن الدولي الـمتعلقة بفلسطين، علاوة على الإدانة الشديدة ومطالبة سلطات الاحتلال بالوقف الفوري لجميع أعمال الحفريات غير القانونية التي تنفذها مجموعات الـمستوطنين بطريقة تمثل تدخلات صارخة ضد آثار القدس.

وهناك قرار مماثل صدر عن الـمجلس التنفيذي لـ"يونيسكو" في أكتوبر من العام الماضي ينفي وجود صلة بين اليهودية والمسجد الأقصى.

وفي ضوء هذه المواقف القوية يمكن القول بلا تردد: إن قرارات "يونيسكو" وحدها هي قيمة سياسية عظيمة للقضية الفلسطينية، وتؤكد كذلك أن قرارات ترامب هي بالفعل تصرفات سياسية يائسة تتعارض مع حقائق قانونية راسخة وكونها أيضاً تستند إلى«التاريخ المتحفي»، الذي سقط منذ آلاف السنين.

الأكثر مشاركة