من المهد إلى اللحد

ت + ت - الحجم الطبيعي

أقدم أب صيني يدعى «تشانغ لي يونغ» على حفر قبر ونام هو وابنته الصغيرة بداخله يومياً، ابنته التي تبلغ من العمر سنتين والمصابة باضطراب دم خطير يسمى «ثيلسمياز»، حيث أقدم الأب على فعلته لكي تعتاد الفتاة القبر لكون مرضها لا علاج له وقد أخبرهم الأطباء أن أيامها في الحياة معدودة.

من شدة حزن الأب على طفلته أقدم على مثل هذا الفعل، وقد تعاطف معه آلاف الناس حول العالم وقدموا له المساعدة على علاج ابنته المريضة، وما إن رأيت الخبر تمعنت جيداً ببكاء الأب وهو يجلس مع الطفلة داخل القبر وهي لا تعلم ما هو مصيرها وتعتقد أن الأب يلعب معها وخصوصاً أنه قد زيّن القبر بألعاب وألوان.

هذه الفتاة لا تختلف كثيراً عن كثيرٍ من أطفال المسلمين الذين تربوا على مبدأ «من المهد إلى اللحد» ونحن نحضرهم من خلال حواراتنا وبرامجنا الإعلامية لدخول هذه الحفرة الصغيرة المظلمة، ولكن الفوارق بين الاثنين أن هذه الفتاة المريضة يُزين لها القبر لتعتاده، أما نحن فنرعب أطفالنا بإخبارهم عن القبر والموت ونروي لهم قصص العذاب والرعب، وكيف سيكون حالهم داخله.

القصص السوداوية التي نرويها لأولادنا ليست مرتبطة بالقبور فقط، إنما بالعديد من جوانب الحياة والتي دائماً ما نربطها بعذاب شديد، فما إن يخطئ الطفل وهو في مرحلة التعلم حتى نخبره أن الله سبحانه وتعالى سيحرقه بنار جهنم رغم أن صنيعته بريئة، ومن هنا تبدأ تتشكل عقلية المرتعب في مجتمعاتنا، إن تذمر أحد من ضيق المكان سنقول له «إذن ماذا سيكون موقفك داخل القبر»، إن أحرق شخص نفسه وهو يحضر القهوة وتألم سيجد ألف تعليق «هذا حرق بسيط.. الله يعينك على نار جهنم»، ولا ننسى الطرفة اللطيفة التي يتناقلها الناس عبر وسائل التواصل عن ذاك الإمام الذي انتقده المصلون لحرارة الجامع المرتفعة فذكرهم بنار جهنم، وكان عجوز من بينهم قال له: ولماذا لا تشغل المكيف وتذكرنا بالجنة.

النظرة السلبية والحزينة والمرعبة التي نظرنا من خلالها إلى جميع مفردات الحياة والتي ما زلنا نربي أبناءنا عليها شكلت الكثير من الأفكار المقيتة في نفوس المسلمين صغاراً وكباراً، بل أخذتهم إلى منحنيات مغايرة، فأحد أهم أسباب نشوء الفكر الإرهابي البحث عن الشهادة حتى وإن كانت باطلة، والتي جاءت بسبب الفكرة الأولى التي زرعناها في صغارنا عن شدة الألم في عذاب القبر وضمته، والتي لن يسلم منها أي شخص مهما كانت أعماله، ولن ينجو منها إلا الشهداء الذين بشروا بالنجاة من كل هذه الأمور، ولهذا تجد أن أكثر قرارات الأطفال أو الشباب اليافعين «بما أننا سنعذب في القبر وستقبض أرواحنا بألم شديد وسنحاسب حساباً عسيراً يوم القيامة، فسأكون شهيداً عندما أكبر وحينها أنجو من هذا الرعب كله».

هذا الأسلوب والمنهج في التربية عمل على صناعة جيل متأزم من داخله، يخاف أن يفرح أو أن يتبسم، يخاف أن يلعب أو يتمتع أو يسافر، فجميع أمور حياتنا مرتبطة بالخوف، حتى أصبحنا نشعر بأن كل شيء محرم، وتشكل على إثر هذا الكثير من المشاكل الاجتماعية، فترى الطفل لا يستمتع بلعبته خوفاً من أن تكون رجساً من عمل الشيطان، وهكذا في الكثير من الأمور، ولهذا يجب علينا أن نتوقف للحظة ونفكر بما صنعه تاريخنا من رعب، ولم يوجد أساساً في تعاليم الأديان.

ألم يحن الوقت لنفتح صفحة جديدة مع الإسلام، نبدأ بعلاقة جديدة بيننا وبين الحياة، نغير مفهومنا عن الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله تعالى، فكفانا حزناً كفانا موتاً، كفانا عقداً وتعقيداً في أمور حياتنا.

علينا أن نغير منهجنا الفكري التربوي ونعيد كتابة قصص مشوقة عن رحمة الله وعفوه، ونتذكر ما جاء في الإرث الإسلامي عن قصص العفو الإلهي بدلاً من ذكر مشاهد مرعبة للعذاب، ونتفكر بخطاب الله لعباده المسلمين في وصفه ليوم الحساب {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26]، لم يقل المُلك يومئذ للجبار أو المنتقم أو أي من أسمائه سبحانه وتعالى التي تدل على الجبروت، إنما اختار «الرحمن» لنتفكر في دلالات الرحمة التي سيلاقينا بها الله يوم الحساب، ودلالات العذاب التي سينالها من أشرك به سبحانه وكفر بألوهيته وخالف منهجه القويم، ولذلك فلنتصور في نفوسنا ونفوس أولادنا أنه لقاء الغفور الرحيم الذي وسعت رحمته الكون بأكمله، الرب العادل الذي وزن كل شيء بقسطاس مستقيم، فإن كان الأب الصيني رحيم بابنته فلن يكون أرحم من رب العالمين بعباده في الدنيا والآخرة.. كونوا مؤمنين بهذا وأحبوا حياتكم.

Email