الدوحة بين كلفتين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجانب الأخطر، الذي لا يتنبه إليه كثيرون بشأن اقتراب الدوحة من إيران، يتعلق بمعنى ذلك على المستوى الشعبي العربي، الذي يشعر بتحسس شديد من المشروع الإيراني، ويرى فيه خطراً بلا حدود.

الدوحة كانت تقدم ذاتها إلى العرب، على المستوى الشعبي، باعتبارها حاضنة الإسلام السياسي بنسخته السنية، وترعى الجماعات السنية، السياسية، والعسكرية، التي تقف في وجه إيران في العراق وسوريا، وزاد من تأكيد هذه الصورة التحالف الضمني مع تركيا وجهات عدة، وهكذا أسست الدوحة صورتها خلال السنين الفائتة، وهذا يفسر الشعور بالفجيعة هذه الأيام حين تقلب الدوحة البوصلة باتجاه آخر تماماً.

الانفتاح على إيران والدعوة لتحسين العلاقات معها وما نراه من خطوات تطبيع بين البلدين، يثبت أحد أمرين، إما أن كل الربيع العربي الذي رعته الدوحة، سياسياً وعسكرياً ومالياً، كان مجرد أداة في المشروع الإيراني لهدم هذه الدول، توطئة للتمدد الإيراني فيها، وإما أن الدوحة باتت مضطرة اليوم أن تتخلى عن الوكالة التي ادعتها بشأن الإسلام السياسي السني عند أول اضطرار لذلك، بحيث ستتخلى عن كل الجماعات التي رعتها وصنعتها، وهذا يقول الكثير لكل الذين بايعوا الدوحة سابقاً، من حيث استعدادها لرميهم عند أول منعطف حاد على الطريق.

في كل الحالات لا بد أن يقال اليوم، إن أزمة إيران مع العرب ليست سهلة، هذه الأزمة ليست مع النظام الرسمي العربي وحسب، بل مع شعوب المنطقة، التي ترى في إيران مهدداً سياسياً ومذهبياً، يرفع رايات مذهبية ويريد تصدير مشروعه القومي-المذهبي إلى منطقة عربية كبيرة، أغلب من فيها هم من السنة العرب، الذين عاشوا طوال عمرهم إلى جانب مواطنيهم الشيعة، دون تفرقة أو تمييز، حتى جاءت محرضات الفتن والاستثارات المذهبية لتعيد خلط الأوراق وتهز البنية الاجتماعية في دول كثيرة، كما العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتؤجج صراعاً دموياً يأسف بشأنه الجميع.

معنى الكلام، أن مشكلة إيران ليست مع الأنظمة الرسمية بل مع العرب، على مستوى الشعوب، في ظل ما يرونه من أخطار كارثية، أدلتها ماثلة في العراق وسوريا ومواقع أخرى، لكن كيف يمكن للدوحة أن تتحالف مع طهران بهذه الطريقة دون أن تدفع كلفة التحالف على المستوى الشعبي العربي، إضافة إلى الموقف من جانب العواصم العربية إزاء ما تراه خطراً على الأمن القومي العربي؟!

لا يمكن للدوحة أن تحتفظ بالصورة التي تحاول ترويجها وصناعتها، أي أنها حاضنة الإسلام السياسي السني، والمدافعة عن العرب السنة في وجه إيران، وفي نفس الوقت تنفتح على إيران، ولا يمكن لها اليوم إلا أن تجد نفسها أمام استحقاق كبير، لأن ادعاء رعاية الإسلام السياسي السني، وإنشاء التنظيمات ودعمها، كان مكلفاً جداً، على مستويات كثيرة، فما بالنا بالانقلاب نحو الاتجاه الآخر، وهو انقلاب أكثر كلفة بكل الأحوال؟

هذه الازدواجية، وتبني سياسة المسارات المتوازية، ازدواجية، لا يمكن أن تنجح في ظل مناخات صعبة على الصعيد الإقليمي والدولي، وفي ظل تصنيف المواقف وفرز كل عنوان في هذه المرحلة، وإذا كانت بعض الآراء التحليلية تقول إن إشارات الدوحة بشأن تحالف جديد مع إيران، مجرد محاولة لاستثارة الدول الأربع المقاطعة بهدف دفعها للتراجع عن موقفها تحت وطأة رفض الاقتراب أكثر وأكثر من إيران، فإن إدارة السياسة بهذا الشكل تعبر عن مغامرة ليست مأمونة الجانب، فقد يتم تركها لتنكشف، بدلاً من استرضائها.

لن تجد الدوحة بعد اقترابها من إيران أي حماية شعبية عربية، لأن هذا الاقتراب يضرب العصب العربي المجروح في الأساس من ممارسات إيران، كما أن جمع الأتراك والإيرانيين في سلة واحدة، في السياسة الخارجية القطرية أمر غير ممكن، خصوصاً أن للأتراك مشروعاً وتطلعات تختلف تماماً عن مشروع الإيرانيين وتطلعاتهم، والمشترك بينهما هو الرغبة بالتمدد في الإقليم والسطو على مساحات اقتصادية وسياسية وجغرافية إضافية، وهذا يعني أن الدوحة في توقيت ما ستكون أيضاً مضطرة للتخلي عن أحد الطرفين، أنقرة أو طهران.

في السياسة لا مواقف نهائية، وثابتة، وهذا أمر مفهوم، لكن المثير أن تضطر الدوحة أن تندفع باتجاه حاضنات إقليمية بدلاً من أن تسعى لحل إشكالاتها مع دول المنطقة، والغريب أن الدوحة تفضل هذا الاندفاع على الرغم من أن حل الإشكالات الكبيرة أقل كلفة عليها من كلفة اندفاعها باتجاه إيران حصراً، خصوصاً أن هذا الاندفاع تترقبه عواصم عالمية بشكوك ولن تسكت عليه إذا ارتفعت حدته أكثر من ذلك حتى لو ادعت الدوحة أنها تلعب سياسياً وتريد استثارة الدول المقاطعة والضغط عليها من أجل فك عقدة المقاطعة.

في كل الحقبات السابقة لدينا الأدلة على أن أي تحالف يتأسس خارج الوحدة الطبيعية للمنطقة العربية ينهار بعد وقت قصير لاعتبارات كثيرة، وهذا يعني أن الحل الوحيد المتاح موجود في عواصم المنطقة ولا يمكن أن تكون سياسة طرق بوابات الإقليم سياسة نجاة، لأن كل هذه العواصم لن تفتح أبوابها إلا إذا حققت مصالحها وربحت أضعاف ما يظنه أي طرف لاجئ إلى أحضانها.

 

 

Email