التأريخ والدراما

ت + ت - الحجم الطبيعي

«والآن أتكلم»، هو عنوان مذكرات أستاذي خالد محيي الدين (عضو مجلس قيادة ثورة يوليو السابق)، متعه الله بالصحة.. أتيت به كتحية لرجل لا تستطيع كل الكلمات أن توفيه حقه.

وقبل أن أتحدث عن «الجماعة»، أستأذن القارئ في أن أدعوه إلى حفل تعارف على القواعد المؤسسة لعلم التاريخ الأكاديمي، وأبدأ بالتعريف الإغريقي القديم جداً لكلمة «استوريا»، التي أصبحت في ما بعد history، ويقول «استوريا هو علم التعرف إلى الوقائع الجديرة بالمعرفة التي وقعت في الماضي».

وأتوقف أمام كلمتي «الجديرة بالمعرفة»، فكثيراً ما تتخم الدراما، إذ تدخل من وإلى باب علم التاريخ بتفاصيل غير جديرة بالمعرفة، أي غير مهمة، وذلك من أجل الحبكة الدرامية والإمتاع الدرامي.

خاصة إذا التزم المؤلف بثلاثين حلقة بالتمام، وكل منها ساعة بالتمام، فتأتى تفاصيل غير علمية، وحوارات هي بالضرورة مصطنعة، ولا يمكن التأكد من صحتها، قد تكون متلائمة مع السياق، لكنها في النهاية من صنع المؤلف.

أما المبدأ الثاني فقد حدده لنا أستاذ أساتذة علم فلسفة التاريخ، البروفيسور ميشلييه، الذي قال «ينقسم علم التاريخ إلى قسمين، أحدهما جميل، وهو الثرثرات والادعاءات والتخمينات، والقسم الآخر قبيح، وهو الحقيقة الأكاديمية».

وهنا نكتشف أن الدراما، أي دراما، إذ تتلمس طريقها إلى الواقع التاريخي، تجد نفسها ملزمة بإيجاد توليفة متوازنة بين النصفين.. أقول متوازنة، لأن هذا اللفظ هو مصدر كل خلاف، كذلك، فإن صياغة النصف القبيح، أي الحقيقة تتداخل فيها نوازع شخصية، سواء لمصدرها الأصلي أو محققها العلمي أو كاتبها أو المتداخلين حتى الأكاديميين منهم في نقد العمل الدرامي. وهكذا شاهدنا نزاعات مفترضة، لأنها دخلت في تماس مع شخصيات وأحداث مختلف عليها.

خاصة أنصار هذا الزعيم أو ذاك، الذين تلبسوا بولاء متعصب أو حتى مفترض، رافضين المساس بمصداقية هذا الزعيم أو ذاك. ناسين أن المصداقية ذاتها غير متفق على مقاييسها، وأنها أيضاً لا تتوافق مقاييسها الأخلاقية مع مقاييسها وممارساتها الفعلية.

ويزداد التعقيد تعقيداً، عندما يتماس الموضوع المكتوب مع زعيم كعبد الناصر، أو زعيم كمصطفى النحاس، وهما بالقطع لا هما ولا غيرهما من الزعماء، ليسوا ملائكة ولا معصومين، وإنما انغمسوا في السياسة بكل ما بها من مناورات وتقلبات، وهى نوازع عادية في أي نفس إنسانية، خاصة إذا ما تعملق الزعيم أو استشعر مسؤولية جسيمة عن شعبه أو وطنه أو حزبه.

وتزداد الكارثة كارثية، عندما يقتحم موضوع الخلافات المشتعلة بتعصب غير علمي وغير عقلاني، أكاديميون كبار، يعتبرون من أفضل مؤرخي مصر، ليتعصبوا هم أيضاً.. وكمثال دون تفصيل، عندما تداخل مؤرخ أكاديمي مرموق، واعتاد الجميع على اللجوء إليه في ما يخص الضباط الأحرار.

فنفى ما هو معلوم بالضرورة، قائلاً إن خالد محيي الدين اخترع قصة القسم على المصحف والمسدس، نكاية في خصمه السياسي عبد الناصر.. ناسياً أو متناسياً أن خالد محيي الدين لم يعتبر نفسه أبداً خصماً لعبد الناصر.

وكمثال آخر، نجد مؤرخاً مرموقاً يواجه في الحوارات باسمي زغلول وموريس، فيلجأ إلى القسم الجميل من التاريخ، ليخترع قصة تقول إن عبد الناصر حاول الانفتاح على كل القوى السياسية الفاعلة، ليتعرف إلى ما بها، فانضم للإخوان، وكان اسمه زغلول.

وانضم للشيوعيين (منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني – حدتو) باسم موريس، وأنا كشاهد عيان، حضرت استخدام عبد الناصر لهذين الاسمين، أقرر وبحزم، أن الأمر لم يكن كما تصوره الأخ العزيز المؤرخ الكبير.

وهكذا وإلى هذا الحد كان الأمر مربكاً ثم أصبح مربكاً أكثر بتداعيات الصراعات والانتماءات والولاءات المطلقة واعتبار الزعماء ذوى الهامات العالية والكاريزما التي يستحقونها بالفعل، وكأنهم ملائكة أو أنبياء، فأصبح مسلسل الجماعة -2 في مهب رياح عاصفة. ونسي الجميع من المتصارعين، وهم حَسَني النية، أنهم قد أصبحوا عبئاً على الحقيقة.

وأن هذا الخصام العصبي قد انتقل بالمسلسل من عمل درامي كاشف لجرائم الجماعة الإرهابية، خاصة في حلقاته الأخيرة، ليصبح بهذه الصراعات غير الحصيفة، منقذاً للجماعة من مزيد من كشفها وفضح جرائمها.. لو واجهت الإرهابيين بحقيقتهم، قالوا مسلسل كاذب، كذب ضد عبد الناصر، وضد مجلس الثورة، وضد النحاس.. وهكذا يكون الإرهابيون براءة.

وآتى بعد ذلك إلى الأخ العزيز والكاتب الرائع والمناضل بشجاعة، لا يتقنها كثيرون في معاركه المتتالية ضد الإرهاب والتأسلم والجماعة الإرهابية، لأقول له، لا عليك يا أخي العزيز، فقد أعملت محبتك لمصر وأعليتها فوق كل شيء.

وخضت بشجاعة لا يبرزها كثير من مخالفيك، ولا ينوون إبرازها، معركتك القلمية يجب أن تضع في اعتبارها عصبية البعض، وعدم أكاديمية البعض. ويا أيها الصديق الشجاع، أرجوك فقط أن تتقبل منى بعض ملاحظات تتجاوز ملاحظات أكثر عدداً، وهى لا تنم إلا عن عثرات التحول من التاريخ إلى الدراما، والدراما إلى التاريخ. مثل دور سيد قطب.. هو لم يكن كذلك.

وفى المصحة، لم تكن له غرفة بمكتب، ومكتبة وكتبه لم يكن يجري تهريبها، بل كانت تخرج «ميري»، كما يقولون. وجلساته بعد الإفراج عنه لم تكن بهذه السذاجة. والسجون ليس فيها مطاعم وميس لتناول الطعام.. فطعام السجن يوضع في قروانة بالزنزانة.

 

 

Email