مزيد من «العسكرة» الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد التصعيد الخطير للعمليات الإرهابية ومظاهر الانفلات الأمني في أفغانستان، فوّض الرئيس الأميركي دونالد ترامب وزارة الدفاع «بنتاغون» في إرسال مزيد من القوات الأميركية إلى تلك الدولة المنكوبة بكل أشكال الحروب، ما يعكس عودة جديدة للحلول العسكرية بعيداً عن النهج السلمي التفاوضي الذي يبدو أنه يتبخر ليطرح أكثر من تساؤل حول جدوى الحرب الأميركية على الإرهاب المستمرة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً.

لكن التساؤل الذي لا يقل أهمية عن التساؤل السابق يتمحور حول سياسات ترامب في التعامل مع النزاعات الخارجية وعلى رأسها بالقطع صراعات الشرق الوسط، وقد ذهب كثير من المحللين في مراحل مبكرة ربما تعود إلى الحملة الانتخابية الرئاسية التي قادت ترامب للمكتب البيضاوي، إلى أن الرجل في حالة فوزه سيكون أكثر انكفاء على الداخل في ضوء كثير من المواقف والتصريحات الصادرة عنه ومن بينها خياره الشهير «أمريكا أولاً».

لم يطل الانتظار كثيراً حتى ثبت أن ترامب وبخلاف كل التوقعات يفعل العكس تماماً، حيث مزيد من التورط أو الانخراط الأميركي المباشر في معظم النزاعات، والمهم في هذه الخطوات والتي كشفت عنها التطورات الأخيرة يتمثل في مزيد من «العسكرة» للصراعات القائمة باعتماد الخيار العسكري.

ما يعني أن السياسات الخارجية انتقلت على وجه التقريب للبنتاغون وجهات مخابراتية أخرى تفضل بكل تأكيد الحلول العسكرية، وربما في ذلك تفسير لتدفق عشرات الآلاف من القوات الأميركية على مناطق النزاعات في الشرق الوسط خلال الأشهر القليلة الماضية بعد انحسارها بشكل واضح خلال فترة حكم باراك أوباما.

وتقدم النموذج الأفغاني الحديث في هذا الشأن، ولكن هناك تطورات أخرى أكثر خطورة وقعت خلال الأيام القليلة الماضية وتعبر بوضوح عن النهج الأميركي الجديد في مزيد من العسكرة للنزاعات بديلاً عن التفاوض السلمي والحلول السياسية، على رأسها التهديدات الأميركية الصارمة بتوجيه ضربات كاسحة لبشار الأسد ونظامه وقواته إذا ما عمد إلى استخدام الأسلحة الكيميائية مرة أخرى.

وتبع ذلك ما يشبه الحملة المنسقة بين الحلفاء الغربيين خاصة فرنسا وبريطانيا، وليس خافياً أن واشنطن كانت قد وجهت قبل أشهر قليلة ضربة صاروخية عنيفة لقاعدة الشعيرات الجوية السورية انطلاقاً من اتهامها للأسد وطيرانه بتحمل المسؤولية عن الهجوم الكيميائي على خان شيخون.

في هذا السياق قدمت واشنطن مساعدات عسكرية ضخمة جداً لقوات «سوريا الديمقراطية» وسلحتها بكل أشكال العتاد العسكري لتحرير الرقة من «داعش» في معركة يبدو أن واشنطن تحتكرها تماماً لنفسها ولا ترغب في أن ترى أطرافاً داخلية أو خارجية أخرى تشارك في تلك المعركة.

وهو ما قد يفسر إقدام القوات الأميركية في غير مناسبة على مهاجمة وضرب قوات سورية نظامية وأخرى متحالفة معها في الفترة الأخيرة، ما يكرس فكرة اتجاه واشنطن لترتيب أوضاع معينة للشمال السوري انطلاقاً من الرقة بعد حسم وضعها عسكرياً.

وقد لمس محللون استراتيجيون هذه الحقيقة بتأكيدهم أن واشنطن اعتادت على إدارة حوار داخلي بشأن الحروب التي يخوضها جيشها، إلا أن الوضع ليس كذلك مع التصعيد الهادئ الحالي للعمليات العسكرية الأميركية ومبيعات السلاح حوالي الشرق الأوسط، فإسقاط مقاتلة سورية وتوجيه ضربات متتالية ضد ميليشيات مناصرة لنظام الأسد كانا آخر حدثين للتصعيد العسكري الزاحف في المنطقة، والذي يفتقر لاستراتيجية واضحة وأهداف يفهمها الشعب الأميركي،على حد قولهم.

ويتم تصعيد العمل العسكري الحالي بواسطة إدارة ترامب دون حوار عام حول مخاطره أو الدبلوماسية وأدوات القوة السياسة الأخرى اللازمة لحماية الولايات المتحدة، وذلك على عكس لزيادة القوات في العراق عام 2007 أثناء إدارة جورج بوش الابن وفي أفغانستان عام 2010 في عهد أوباما، وعلى الرغم من أن التصعيد الراهن لا يشمل نشر مئات الآلاف من الجنود في مناطق حضرية كبرى، إلا أنه يمثل وجوداً عسكرياً متزايداً وغير شفاف خصوصاً لقوات العمليات الخاصة.

فخلال خمسة شهور فقط، نقل الرئيس ترامب القوات الأميركية قريباً من خطوط المواجهة في حروب كبرى في العراق واليمن والصومال، وكما كان قد فعل مؤخراً في أفغانستان فهو أيضاً فوّض سلطات أكبر للبنتاغون لتقرير مستويات القوات وضرب الأهداف من الجو.

لقد تضاعفت ضربات الطائرات بدون طيار أربع مرات مقارنة بمتوسطها في عهد أوباما، وفي اليمن قصفت الطائرات الأميركية عدداً من الأهداف خلال أسبوع واحد في أوائل مارس يساوي الأهداف التي كان يتم قصفها خلال عام كامل في عهد أوباما.

وفي العراق وسوريا أطلق التحالف المعادي لداعش بقيادة الولايات المتحدة ذخائر موجهة وأنظمة تسليحية أخرى في مايو تزيد عن تلك التي استخدمت في أي شهر سابق له منذ بداية الحملة، كما تقوم الولايات المتحدة أيضاً وفي صمت بنشر نظام مدفعية بعيدة المدى في جنوب شرق سوريا، وهذه خطوة أخفقت في إثارة أي نقاش عام حولها.

وليس واضحاً ما إذا كانت إدارة ترامب قد درست احتمالات سير الأمور على غير ما ترغب مثل الانزلاق في حرب مباشرة مع إيران أو تعرض القوات الأميركية لهجمات أسلحة كيماوية بواسطة داعش، ومن المؤكد أن بعض هذه التحركات يمثل الخطوة التالية في حملة طويلة الأجل لهزيمة داعش بدأتها إدارة أوباما خصوصاً في العراق، والسعي لاستعادة مدينة الرقة السورية.

ولكن الأمر المختلف هنا هو التقليل من دور الدبلوماسية والأدوات الأخرى الضرورية في إنهاء القتال والمجيء باستقرار طويل الأمد بما في ذلك اقتراح تخفيضات ضخمة في وزارة الخارجية وترك مناصب أساسية شاغرة خاصة بالدبلوماسية والأمن القومي، والواقع الآن أن ترامب اختار طريق «العسكرة» على حساب الدبلوماسية، مانحاً التفويض للبنتاغون والمخابرات نحو مزيد من التصعيد، ليتأكد أن «عقيدته» الداخلية ربما تعني مزيداً من التورط في الخارج.

 

 

Email