المدنيّون يدفعون الثمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعيداً عما يدفعه المدنيون الأبرياء من ثمن باهظ في العمليات الإرهابية التي تقع في أي مكان من العالم، وهي حروب وعمليات لها قواعدها المختلفة بالتأكيد عن عمليات الجيوش النظامية، فقد بات مألوفاً، وذلك أمر مثير للاشمئزاز بالقطع، الحديث عن نحر المدنيين في الصراعات المسلحة والحروب الجارية خاصة في منطقة الشرق الأوسط ودولنا العربية دون حسيب أو رقيب.

لا يكاد يمر يوم حتى نسمع أخباراً جديدة، أصبحت مألوفة على وجه التقريب عن سقوط عشرات، وربما مئات الضحايا من المدنيين الأبرياء في مناطق الحروب والصراعات المسلحة، والظاهرة ليست جديدة بالقطع، حيث يسقط المدنيون بين قتيل وجريح في الحروب منذ عشرات السنين، ولكن المؤلم فيها أنها تحولت إلى ظاهرة مستمرة ومتصاعدة، بلا أي أفق أو حتى محاولات جادة لتجنبها أو للحد منها على أقل تقدير، بل يبدو أن قوى عالمية كبرى أوشكت على اعتبارها ممارسة طبيعية لا مفر منها.

القتل يفاقم من حجم المآسي الإنسانية التي يعاني منها البشر في مثل هذه الظروف الدامية، برغم ترسانة القوانين الدولية والإنسانية، والضوابط العالمية التي تنص على حتمية حماية المدنيين وعدم التعرض لهم بشتى السبل أثناء الحروب والعمليات العسكرية.

لعل أهم الاتفاقيات الدولية الموقعة في هذا الشأن، اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، الموقعة في أغسطس 1949، وتنص صراحة على أنه في حالة قيام نزاع مسلح ليس له طابع دولي في أراضي أحد الأطراف الموقعة على الاتفاقية، يلتزم كل طرف في النزاع بأن يطبق، كحد أدنى، الأحكام الواردة فيها، واعتبار الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية.

بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر، يعاملون في جميع الأحوال معاملة إنسانية، دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون أو الدين أو المعتقد أو الجنس أو المولد أو الثروة، أو أي معيار مماثل آخر، ولهذا الغرض تحظر الاعتداء علي الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب، وأخذ الرهائن والاعتداء على الكرامة الشخصية.

جاء مكملاً لتلك الاتفاقية، الإعلان الختامي للمؤتمر الدولي لحماية ضحايا الحروب في أغسطس 1993، وأكد على رفض انتشار الحروب والعنف والكراهية في جميع أنحاء العالم، ورفض تزايد انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية التي تحدث بانتظام، ورفض عدم الرأفة بالجرحى وقتل الأطفال واغتصاب النساء وتعذيب السجناء.

وعدم تقديم المساعدة الإنسانية الأساسية إلى الضحايا، واللجوء إلى تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب، وعدم احترام الأحكام المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني في الأراضي الخاضعة للاحتلال الأجنبي، وعدم تقديم المعلومات إلى أسر الأشخاص المفقودين عن مصير ذويهم، وترحيل السكان بصورة غير شرعية، ورفض تعرض البلدان للدمار.

برغم كل هذه القوانين والاتفاقيات والضوابط الدولية، فقد تمددت الظاهرة أكثر وأكثر، وتزايد عدد الضحايا المدنيين بشكل لافت في الشهور الماضية، خاصة في حروب سوريا والعراق، ما دفع الأمم المتحدة إلى كسر حاجز الصمت، ومطالبة القوى المحاربة لداعش بتوخي الحذر في عمليات القصف التي تقوم بها.

أعداد القتلى والمصابين المتزايدة بين المدنيين، التي نجمت بالفعل عن ضربات جوية في دير الزور والرقة، تعطي انطباعاً بأن التدابير التي اتخذت ربما لم تكن كافية.

تلك حقيقة يمكن تعميمها، فلقد تغيرت طبيعة الحروب بلا شك، فبينما لم تتجاوز نسبة الضحايا المدنيين في الحرب العالمية الأولى 5 %، فقد ارتفعت في الحرب العالمية الثانية إلى 50 %، لتصل في الحروب والنزاعات خلال نهايات القرن الماضي إلى 90 %، غالبيتهم من النساء والأطفال، وأغلب الظن أن هذه النسب ستشهد ارتفاعاً مستمراً حالياً ومستقبلاً، وإذا كان تبني اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين عام 1949، جاء ليخفف من وطأة وخطورة هذا التغيير في منحى الحروب الحديثة، إلا أنه لم يفلح في تغيير هذه الظاهرة.

يبدو جلياً الآن أن الاعتماد على اتفاقيات جنيف والقواعد التي أرستها كوسيلة لحماية المدنيين لم يعد كافياً، فالقوانين وحدها لن تحمي المدنيين في تلك الظروف، وأصبحت هنالك حاجة ملحة لتوفير حماية حقيقية للأبرياء من أخطاء الحروب وجرائمها غير المقصودة أو المباشرة، وكذلك لا بد من تفعيل قوانين وقواعد المحاسبة الدولية في هذا الشأن.

 

 

Email