القضية ليست صلاح الدين

ت + ت - الحجم الطبيعي

مناهج البحث كانت مادة مهمة من حزمة مواد أساسية درسناها عندما كنا طلاباً في كلية الإعلام، ولها أهميتها الكبرى ليس في قراءة التاريخ فحسب ولكن كذلك في حتمية إعمال العقل عند التعامل مع الوثيقة التاريخية والظروف المحيطة بها.

من القواعد المهمة التي ارتبطت بهذا العلم أن تاريخ اليوم هو سياسة الأمس وأن سياسة اليوم هي تاريخ الغد، وأنه كلما ابتعدنا زمنياً عن الحادثة التاريخية كلما سقطت تفاصيل عديدة مرتبطة بها بحيث نصل إلى يوم لا يتبقى منها إلا العنوان العريض المرتبط بها أو المعبر عنها، والحقيقة أن هذا المبدأ لا يرتبط بأحداث فردية فحسب ولكنه يسري أيضا على حقب زمنية بأكملها.

من ذلك مثلا الحقبة الاستعمارية التي عانت منها أشد المعاناة دول الجنوب خلال القرون السابقة، ندرك جميعاً وقوعها في مرحلة زمنية معينة ولكن تفاصيلها الدقيقة - برغم حداثة عهدها نسبياً - تكاد أن تكون غائبة عن الغالبية العظمى من البشر، والأمر ذاته عن موت الأمير الفرعوني الشاب «توت عنخ آمون».

المعلومة المؤكدة لدى العارفين باسمه أنه مات صغير السن، ولكن لا يدرك الكثيرون اللغط المشتعل حول ظروف موته في رحلة صيد أوجريمة قصر أو نتيجة التهاب مرضي خطير، وحتى الثورة الأشهر في تاريخ مصر يعلم الجميع أنها وقعت يوم 23 يوليو1952 بزعامة جمال عبدالناصر وأطاحت بالحقبة الملكية.

هذا هوالعنوان العريض، أما التفاصيل الدقيقة كونها ثورة أم انقلاب، وهل كان عبدالناصر ليلتها يرتدي زياً مدنياً أم عسكرياً، وهل كان السادات معهم أم في السينما يشاهد فيلماً جديداً مع زوجته جيهان السادات، كلها تفاصيل لا يعرفها أو لا يهتم بها إلا الباحثون في التاريخ.

من القواعد المهمة التي ارتبطت بمادة مناهج البحث الحديث عن الوثيقة التاريخية ومدى دقتها وإمكانية اعتبارها مصدراً أصيلاً أو مساعداً للتاريخ أو التأريخ، ومن تلك الوثائق على سبيل المثال الصحف والمجلات التي واكبت آلاف الأحداث التاريخية في كل أنحاء العالم على مدى مئات السنين واتسمت بأنها إصدارات سيارة تخرج على الناس كل يوم بجديد أخبارها وأحدث التطورات لدرجة أن العاملين في بلاط صاحبة الجلالة حتى اليوم يحرصون على نشر بعض الأخبار بغض النظرعن أهميتها .

ولكن بهدف التوثيق إلا أن القاعدة أو المبدأ أو النصيحة تمثلت في أن الصحيفة وحدها لا تصلح مصدراً للتاريخ إذا كان الموضوع مرتبطاً بقضية سياسية أو مجتمعية كبرى، فعند الحديث عن الحروب العالمية الكبرى أو الثورات البارزة أو الكوارث البشرية والطبيعية المريعة لا تصلح الصحافة ووسائل الإعلام وحدها كمصدر للتاريخ، ولكن يمكن اعتبارها وسائل مساعدة.

قياساً على ذلك أيضا، من أكبر السلبيات التي يجب تجنبها وباتت ثوابت متفقاً عليها في هذا العلم؛عدم استخلاص المعلومات التاريخية أو الحقائق المجتمعية من الأفلام السينمائية أو المسلسلات الدرامية، لأن ذلك سيؤدي إلى خلق حالة من الخلط الشديد والإلتباس العميق بين الحقيقة والخيال.

فالأعمال الدرامية لها تقييم منفصل كأعمال فنية تختلف بكل تأكيد عن الدراسات التاريخية، وإلا لحكمنا على مجتمع معين بأنه منحرف غارق في الرذيلة لا يعرف إلا المقامرة وشرب الخمور والسرقة والبلطجة فقط لأن مسلسلاته الدرامية لا تعرض إلا تلك المشاهد التي يبدو أنها أبعد ما تكون عن الواقع الميداني.

لم يكن مستغرباً في ضوء ذلك أن نسمع من مواطنين أمريكيين على سبيل المثال أن مسلسلات أسطورية استقطبت نسب مشاهدة خرافية على غرار«فالكون كريست، نوتس لاندينج، الجرئ والجميلات» وهي أبعد ما تكون عن حقيقة المجتمع الأميركي، ولكنها ضرورات العمل الدرامي ومبالغاته المألوفة.

عند حديثه عن فيلم الناصر صلاح الدين للقائد المسلم صلاح الدين الأيوبي وحروبه مع الصليبيين قال المخرج يوسف شاهين إنه أخرج الفيلم بعد رحيل المخرج الأصلي عزالدين ذوالفقار، فقام بتغيير السيناريو والحوار ليعرض وجهة نظره الشخصية، وذلك أمر مألوف في الأعمال الدرامية، حيث تمثل في الغالب وجهة نظر شخصية للمخرج أو المؤلف أو فريق العمل بأكمله، أما اعتباره وثيقة تاريخية أصلية فهذا في حد ذاته خلل فكري جسيم.

أغلب الظن أن وصف صلاح الدين بأنه «أحقر شخصية في التاريخ» من جانب أحدهم ناجم عن هذا الخلل، حيث كانت الفجوة ضخمة بين ما قرأ وما شاهد.

ليست تلك السلبية الوحيدة بالتأكيد في التقييم، حيث كان هناك خلل آخر تمثل في خطأ الإسقاط التاريخي، بمعنى تقييم ما جرى قبل ألف سنة بمعايير أيامنا تلك، متجاهلين الظروف التي جرت فيها الأحداث، حيث كانت تسمح بكثير مما لا نستوعبه اليوم، بل إنها كانت طبيعة وسمات الصراعات السياسية في ذلك الزمان.

تبقى القاعدة الأخيرة التي يجب اتباعها ولها أهميتها أيضا وتتمثل في عدم تطويع المعلومات التاريخية للمنهج لمجرد التدليل على صحة وجهة النظر الذاتية، وتلك هي المشكلة الكبرى عند إخضاع الحقائق للأهواء الشخصية باللعب في المنطقة الرمادية حتى ولو بزعم تصحيح التاريخ.

 

 

Email