مقاومة التجديد الديني

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك من يظن أن الدعوة لتجديد الخطاب الديني جديدة، وربما كان الذين يظنون هذا الظن كثيرين لأن العبارة المستخدمة في هذه الدعوة وهي »الخطاب الديني« عبارة جديدة لم تستعمل بمعناها المتعارف عليه الآن إلا نتيجة للتطورات الحديثة التي لحقت بالدراسات اللغوية.

تلك الدراسات الجديدة اعتبرت اللغة بنية أو نسقاً لا يفهم بمفرداته، وإنما يفهم بكل ما يدخل فيه ويشكله من عناصر وإشارات ظاهرة أو غير ظاهرة، ومن هنا تختلف النصوص اللغوية الأدبية والدينية والفكرية ونختلف في قراءتنا لها وفهمنا إياها ونحتاج لمراجعة هذا الفهم ورده إلى أصوله الأولى لنكتشف مثلاً أن ما يفهمه البعض من النص الديني لا يستند إلى أساس موجود في النص.

وأنه مجرد إتباع أو اجتهاد شخصي تأثر بمناخ سائد أو بوضع سياسي أو اجتماعي وفرض نفسه على قارئ النص وأنتج خطابه الذي نستطيع أن ننقده وأن نطالب بتجديده.

لكن الدعوة لتجديد الخطاب الديني ليست جديدة إلا بهذه العبارة الجديدة التي أصبحنا نستعملها وهي عبارة الخطاب الديني، أما بمضمونها وهو الدعوة للاجتهاد في فهم النصوص الدينية فهماً جديداً يتفق مع روح العصر ويلبي مطالبنا فيه ولا يتعارض مع الحقائق والمبادئ والنظم والحقوق التي قامت عليها الحضارة الإنسانية الحديثة، فهي دعوة بدأت مع بداية نهضتنا التي لم نستكملها حتى الآن.

لقد سرنا في طرق النهضة أشواطاً وتوقفنا، وتقدمنا أحياناً وتخلفنا وخلال ذلك كانت أصوات المطالبين بإصلاح الأزهر وتجديد الفكر الديني ترتفع ولا تجد من يستجيب فيصيبها الإحباط وتتراجع وتختفي.

لقد بدأت الدعوة لتجديد الخطاب الديني أول ما بدأت وخرجت أول ما خرجت من قلب المؤسسة التي نطالبها الآن بتجديد الخطاب الديني ولا نلقى جواباً شافياً وهي الأزهر، وذلك على لسان واحد من أئمته هو الشيخ حسن العطار الذي شهد دخول الفرنسيين مصر، واتصل بهم وانبهر مثل غيره بما رآه من علومهم وفنونهم

وتولى مشيخة الأزهر في أيام محمد علي وشجعه على المضي في إصلاحاته، وهو الذي أشار عليه بإرسال تلميذه رفاعة رافع الطهطاوي إلي باريس مع من أرسلهم محمد علي ليتعلموا في معاهدها، وهذا ما يحدثنا عنه علي مبارك في »الخطط التوفيقية« فيقول:

»واتصل بناس من الفرنساوية، فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم، ويفيدهم اللغة العربية ويقول ـ والقائل هو حسن العطار ـ إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، وهو ـ أي حسن العطار ـ يتعجب مما وصلت إليه هذه الأمة ـ يعني الأمة الفرنسية ـ من المعارف والعلوم، ومن كثرة كتبهم وتحريرها وتقريبها لطرق الاستفادة«.

لكن حسن العطار الذي عبر عن حاجتنا للتجديد وساعد محمد علي في إنجاز ما قام به لم يتمكن من تجديد الخطاب الديني الموروث الذي تمسك به الأزهر، وظل محافظاً عليه حتى الآن رغم أن الدعوة لتجديد هذا الخطاب لم تنقطع حتى الآن، فقد واصلها تلميذه رفاعة رافع الطهطاوي الذي عاد من فرنسا ليطالب الأزهر بإدخال العلوم الحديثة في برامجه الدراسية.

وفي هذا يقول في كتابه »مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية«، ضمن حديثه عن الأزهر ورجاله:

»إن لهم اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العملية والاعتقادية. غير أن هذا وحده لا يفي للوطن بقضاء الوطر، ويجب معرفة سائر المعارف البشرية المدنية التي لها مدخل في تقديم الوطنية من كل ما يحمد على تعلمه وتعليمه علماء الأمة المحمدية«.

غير أن علماء الأمة المحمدية لم يستمعوا للطهطاوي كما لم يستمعوا قبله للعطار وكما لم يستمعوا بعده للإمام محمد عبده.

الشيخ الشربيني الذي تولى المشيخة في أواخر القرن التاسع عشر يقول في حديث له إن الخدمة التي يؤديها الأزهر هي أن يقوم بحفظ الدين لا غير، أما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم العصر فلا علاقة للأزهر به، والذين يطالبون بإدخال العلوم الحديثة في الأزهر يحاولون هدم التعليم الديني.

ويسعون لتحويل هذا المسجد العظيم إلى مدرسة فلسفة وآداب تحارب الدين وتطفئ نوره. وإني أسمع منذ سنوات ـ والكلام لا يزال للشيخ الشربيني ـ بشيء يسمونه إصلاح الأزهر، ولكني لم أر لهذا الإصلاح نتيجة تذكر سوى انتشار الفوضى في ربوعه، وذهاب ما كان من مودة ورحمة ومهابة بين الطلبة ومشايخهم.

بل إن الجمود جعل واحداً من شيوخ الأزهر يرفض تدريس »مقدمة ابن خلدون« في الأزهر حين اقترح ذلك الأستاذ الإمام محمد عبده، ووصف له الفوائد التي ستعود على طلاب الأزهر من تدريسها، فأجابه الشيخ الجليل: إن العادة لم تجر بذلك.

ونحن نعرف بالطبع أن هذا الوضع تغير، وأن العلوم الحديثة دخلت الأزهر، فهل غيّر دخولها شيئاً في الخطاب الديني؟ وهل ساعدت على تجديده؟

 

Email