ما بين تحرير الموصل ومعركة الرقة

حالة من الالتباس الشديد يمكن أن تنتاب أي إنسان عندما يقترب من المشهد الأمني والإنساني الراهن في بلاد الرافدين، فمع دخول معركة تحرير الموصل من تنظيم داعش الإرهابي مراحلها النهائية، فلا بد وأن تختلط المشاعر وترتبك الأحاسيس إزاء الأنباء المتواترة عن سير المعارك، ارتياحاً لسقوط مواقع التنظيم الإرهابي، وغضباً لسقوط المئات من المدنيين الأبرياء بين قتيل وجريح ومفقود تحت الأنقاض.

ليست الحرب الأولى التي يسقط فيها مدنيون أبرياء بهذا العدد الكبير، وأغلب الظن أيضاً أن دماءهم سوف تذهب هدراً مهما كثر الحديث عن تحقيقات لكشف الأخطاء أو محاولات للتبرير، فسواء كانت قاذفات «التحالف» المكلفة بالقصف الجوي أو«مفخخات» داعش التي ترددت اتهامات تحملها مسؤولية ما حدث بالبصرة قبل أيام، ففي الغالب النتيجة واحدة، والملفات ستبقى مفتوحة دون أن يتحمل أحد مسؤولية ما حدث بشكل مباشر.

وبكل تأكيد لا يمكن ولا يجوز القبول بفكرة «الخطأ» لتمرير جرائم استهداف المدنيين، فكثير من الأخطاء في مواقع عدة من العالم كانت تصب في خانة «الأخطاء المقصودة» التي يراد تحقيق أهداف معينة من ورائها، وفي الوقت ذاته لا يجوز القبول بذريعة «الحسابات الخاطئة»، فمن المفترض أن عملية كبيرة بحجم معركة «قادمون يا نينوى» خضعت لحسابات ميدانية واستراتيجية عميقة.

ولم يكن ذلك المشهد الوحيد الذي تتحول فيه مناطق ومدن في بلاد الرافدين إلى ميادين رماية لكل أنواع الأسلحة من جانب قوى وجماعات محلية وإقليمية ودولية، فكان أبرزها في الأشهر الأخيرة ما جرى في معارك حلب وفي مناطق أخرى بشمال سوريا مثل تدمر وعين العرب.

حدث أن تم قصف قوافل إغاثة دولية ومشافٍ ودور مدنية عديدة في وضح النهار، ولم تحرك أي قوى أو مؤسسات دولية ساكناً باستثناء أصوات شاردة هنا أو هناك تطالب بتحقيقات دولية مكثفة، وأخرى تطالب بتفعيل دور المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة المسؤولين (غير محددي الهوية) بتهم الإبادة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

هذه التطورات الدامية تدعو للأسف بكل تأكيد، ولا يخفف منها كثيراً هزيمة «داعش» وكانت أمراً محتوماً، وهو أمر يبعث بالقطع الارتياح في النفوس للخلاص من هذا الكابوس المخيف، ولكن المشاهد الأخيرة لمعارك الموصل تثير الكثير من المخاوف والقلق مما هو آتٍ.

خاصة وأن «داعش» ليس التنظيم الإرهابي الوحيد، فهناك عديد من الجماعات والتنظيمات التي تلزم النهج الإرهابي المسلح وخطرها قائم في ربوع المنطقة ومن بينها من يرتبط بداعش فكراً وتطرفاً، والآخرون ولدوا من عباءة «القاعدة» وبينهما جماعات انفصالية ترمي لأهداف خاصة وجماعات معارضة مسلحة تشوهت بفعل كثير من التدخلات الخارجية التي خلطت كل الأوراق.

كثير من هذا الخلط نتوقعه في المرحلة المقبلة في الأراضي السورية مع احتشاد قوى محلية وإقليمية ودولية لخوض واحدة من أشرس المعارك من المتوقع أن تشهد هي الأخرى الكثير من التجاوزات في حق المدنيين الأبرياء، بحثاً عن تكريس واقع سياسي وأمني وديموغرافي جديد يلبي مخططات القوى المتورطة في هذه الحملات على غرار ما يحدث في الموصل، ولا شك في أن تصريحات وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان التي أكد فيها قبل أيام أن معركة تحرير مدينة الرقة السورية من أيدي تنظيم داعش الإرهابي ستبدأ خلال أيام قد ألهبت خيال السياسيين والاستراتيجيين، ليس على الصعيد الإقليمي فقط ولكن على الصعيد الدولي أيضاً في محاولة لفك طلاسم الموقف المعقد في هذه المنطقة.

وحسب رؤية الوزير الفرنسي فإن بلاده ترى دائماً أن الرقة هدف ذو أولوية، وأن معركتها ستكون صعبة للغاية، وهي بالفعل ستكون كذلك ليس لأنها معركة الخلاص من داعش ومقر قياداته فحسب، ولكن لهذه الحشود العسكرية الضخمة من جانب قوى دولية عديدة، وكذلك للحسابات المعقدة للعبة المصالح من جانب أطراف الصراع المحلية ودول الجوار المعنية وخاصة تركيا.

ولعل الوثيقة السرية التي كشف النقاب عنها مؤخرا في واشنطن، تؤكد ذلك، حيث ترصد أربع عشائر قوية قد تكون لها الكلمة الفصل في حسم المعركة، في ظل الصراع بين قوات درع الفرات وقوات سوريا الديمقراطية للسيطرة على المدينة.

وحسب الوثيقة، فإن أهم العشائر في المنطقة هي البياطرة والعجيل والبريج والنعيم، وهذه العشائر متفقة على طرد داعش من الرقة ومتفقة أيضاً على رفضها لأي دور للأكراد أو الميليشيات الشيعية في المعركة، وتصنف الوثيقة توجهات عشائر الرقة على النحو التالي: عشيرة البياطرة تحتضن الجيش السوري الحر وتعارض بشدة النظام السوري، ثم عشيرة العجيل التي ينحدر منها أمير داعش في الرقة، أبولقمان وتتميز بعدائها الشديد للأكراد، وكذلك عشيرة البريج ويتهمها التقرير بأنها توفر حاضنة لداعش، أما عشيرة النعيم فيقول التقرير إن ولاءاتها تتأرجح بين داعش والنظام السوري والأكراد.

وتلفت الوثيقة الصادرة عن معهد واشنطن الانتباه إلى أن هذه العشائر العربية رغم اختلاف توجهاتها، يمكنها أن تكون خياراً جيداً لواشنطن للاستيلاء على الأرض والسيطرة على الرقة بعد طرد داعش منها، وواقع الأمر أن هذه مجرد جزئية لصورة شديدة التعقيد يصعب معها ومع وجود أطراف أخرى صياغة قراءة واحدة لمعركة الرقة «المنتظرة».