كلام عن المواطنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

جرى العرف في السنوات القليلة الماضية على طرح مبدأ المواطنة، وتأكيد أهميته عند الحديث عن برامج ومقاربات التعاطي مع قضايا العنف والتطرف على الصعيد الداخلي للدول.

وكذلك على المستوى العالمي. وحقيقة الأمر أن المواطنة وما يرتبط بها مبادئ وقيم وأصول ليست فكراً جديداً على الإطلاق ولكنها أصبحت أكثر أهمية في ضوء الظروف الدولية والإقليمية الراهنة، مما يجعل بعثها والتذكير بها والعمل الجاد على تطبيقها أمراً حيوياً قبل أن تصل المجتمعات للانفجار والصدام لأسباب دينية أومذهبية أو طائفية أوعرقية أو حتى طبقية.

ليست مبالغة التأكيد أن مسألة المواطنة يكتنفها كثير من الالتباس عند التعاطي معها؛ حيث يحدث تداخل كبير لقيمها مع قواعد التعايش السلمي والحريات العامة والشخصية ومبادئ حقوق الإنسان، وجميعها قواعد مستقرة منذ عقود لحفظ توازن المجتمعات وكيانها البنيوي.

هناك ما يشبه الإجماع المنطقي على تداخل عوامل كثيرة ينبغي توافرها بفاعلية لضمان النجاح التام لمفهوم المواطنة، ومعظم تلك العوامل قد يكون بعيداً كل البعد عن حديث وممارسات الاضطهاد أو التمييز الديني والمذهبي والعرقي، لكونها في الأساس عوامل سياسية واقتصادية وثقافية ومجتمعية شاملة لا ترتبط بالضرورة بديانة معينة.

فالتوازن السياسي والضوابط القانونية والعدالة الاجتماعية ومعالجة المشكلات الاقتصادية بتوفير الوظائف وإتاحة فرص العمل وتحقيق معدلات تنمية مرتفعة والقضاء على الفساد أوالحد منه وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بالمساواة ودعم طموحات الشباب بفتح مجالات التعليم والأبحاث وريادة الأعمال أمامهم؛ جميعها قيم وبرامج وممارسات تكفل تعميق مفهوم الانتماء ثم المواطنة لدى شرائح المجتمع المختلفة.

وقد تجلى ذلك بوضوح في مؤتمر «الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل» الذي استضافته مصر قبل أيام بحضور مجلس حكماء المسلمين وكوكبة من رجال الدين والمفكرين والسياسيين.

ولعل شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب قد وجد في المؤتمر فرصة سانحة لإيصال جملة من الرسائل لمن يهمهم الأمر، خاصة في العالم الغربي، بهدف تعميق مفهوم «المواطنة عابرة القارات» لتحقيق السلام والتعايش السلمي لدول العالم كافة، كتأكيد على أسفه على تصوير الدين وكأنه أداة سحقت بها أجساد الأبرياء.

وأن «الشرذمة الشاردة» عن نهج الدين أوشكت أن تجيش العالَم كلَّه ضد الإسلام، بينما المتأمل المنصف في ظاهرة الإسلاموفوبيا لا تخطئ عيناه الكيل بمكيالين بين المحاكمة العالمية للإسلام من جانب وللمسيحية واليهودية من جانب آخر.

في هذا السياق جاء تحذيره من أنه إذا لم تعمل المؤسسات الدينية في الشرق والغرب معاً للتصدي للإسلاموفوبيا، فإنها سوف تطلق أشرعتها نحو المسيحية واليهودية إن عاجلاً أو آجلاً، وأن تبرئة الأديان من الإرهاب لم تعد تكفي، ويجب علينا النزول بمبادئ الأديان وأخلاقياتها إلى الواقع المضطرب.

هذه الأفكار جاءت ضمن رؤية شاملة لتخليص العالم من المفاهيم المغلوطة وصولاً إلى أرضية تفاهم مشتركة للقضاء على شرور التطرف، وكذلك الإرهاب الناجم عن تعميق الكراهية والشقاق بين الشعوب والدول لأسباب دينية أو عرقية مفتعلة، وإزالة سوء الفهم الذي سرعان ما يخلط بين القيم الدينية السمحة ومروق بعض الفئات الضالة.

تتكامل هذه التوجهات مع مقاربات أخرى سبق طرحها في مناسبات مماثلة كإعلان مراكش المغربية الذي صدر قبل أشهر واعتبر أن «صحيفة المدينة» التي أقرها الرسول - صلى الله عليه وسلم- هي الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي، وأن السياق الحضاري المعاصر يرشح هذه الوثيقة لتقدم للمسلمين الأساس المرجعي المبدئي للمواطنة باعتبارها صيغة تعاقدية ودستوراً عادلاً لمجتمع متعدد الأعراق والديانة واللغة.

من منطلق فكري بحت يرى بعض الباحثين أن المواطنة في أبسط صورها هي شعور الإنسان بأن الحياة التي تجمعه مع الآخر على مساحة الأرض التي يتحرك فيها هي حياة واحدة يتولد منها الشعور بالانتماء إلى الجماعة والأرض والدولة التي تحكم العلاقة بين هذه الأطراف في الواقع الاجتماعي، وهذا صحيح في المفهوم الشعوري.

ليس هناك شك في أنه من الضروري لتحقيق ذلك توافر بعض المفاهيم الأخلاقية والقيمة لدعم العلاقة التبادلية بين الوطن والمواطن بما يكفل صياغة قواعد راسخة للمواطنة وأوجه ممارساتها، وعلى رأسها على سبيل المثال لا الحصر حب الوطن والفاعلية الوطنية وهو مبدأ يرتكز على مبادرة المواطن للمشاركة الوطنية اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً، علاوة على قواعد العدل والحرية والمساواة.

وهي قواعد عامة تحتاج بالفعل إلى إرادة سياسية من الحكومات والدول حتى لا نظلم الأديان ومبادئها السمحة، حتى وإن كانت هناك ضرورات ملحة وعاجلة لإصلاح وتجديد الخطاب الديني، واعتماد صحيح الدين إلى جانب صحيح العلم وصحيح التاريخ لإصلاح ما فسد بفعل الإهمال والترهل الفكري والثقافي عبر الزمن.

 

Email