القيادة بصنع الأمل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يسطر لنا التاريخ أن للقادة في التعامل مع الناس مناهج تباينت وطرقاً تعددت وأدوات اختلفت وفقاً لرؤية كل منهم لشعبه، وللطريق الذي اختاره لنفسه معهم، والغايات التي يود أن يصل إليها، كما وتختلف تلك السبل وفقاً لرؤية كل منهم لمهمة القائد ودوره.

وهناك قادة مروا عبر حقبات تاريخية سابقة كانوا يرون أن الجماهير تفهم ببطء شديد، وأن السيطرة على عقولهم هي السبيل المؤدية إلى الذهاب بهم حيثما تريد، وأنه لا بد أن يظل هناك حالة من التنابذ والتناحر بين مختلف مكونات المجتمع حتى تظل الأوراق كلها بيده ويتم هذا عبر تأليب بعضهم على بعض؛ الفقير على الغني، والعمال على أصحاب العمل، والشباب على كبار السن، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأية وسيلة تضمن له استمراره في كرسي الحكم هي وسيلة مشروعة ولو بالتضليل أو الكذب أو نشر الفتن بين الناس أو توجيه أنظارهم إلى كبش فداء يتم تحميله كل الإخفاقات التي يقع فيها والكوارث التي يسببها أو الإنجازات التي لم يستطع تحقيقها.

ويقص علينا التاريخ أيضاً أن هناك من اختار بث الرعب في من حوله، وجعل من التخويف وسيلته لبقاء سلطته، وأطلق يد البطش تعربد بين أبناء شعبه، فكمم الأفواه، وصادر الحقوق، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قاتل شعبه وهجره، وهو الموكل برعايته وحمايته؛ فانفرط العقد، وبدل أن يجمع فرَّق، وباتت الكراهية والتنابذ هي الحصاد المر، والهدم هو الحاضر دائماً وغاب البناء، والحزن والمرارة طعماً شائعاً في القلب والحلق، والرجوع عقوداً طويلة إلى الوراء في طريق الشوك والآلام بديلاً عن الازدهار والحياة الآمنة، وتلك كلها نتائج متوقعة ومحتمة؛ لأن من يزرع الحنظل لا يجني العنب. وقد يفرض بعضهم طوقاً على شعبه يعجز معه عن الاتصال مع غيره من شعوب العالم، وإذا سافر عليه أن يترك أحد أفراد أسرته رهينة ضمان عودته.

وطريق ثالث اختاره بعض من تسلموا مقاليد الحكم، وهو أن يرسخ دائماً لدى شعبه الرضا بما هم عليه من حال مهما كانت هذه الحال، مصدِّراً صورة شديدة القتامة؛ فيكسر لديهم الأمل في غد أفضل، ويشل قدرتهم على الحركة أو الدافعية إلى صناعة واقع أفضل، أو النظر إلى المستقبل بعين التفاؤل، وهو أمر يقتل في الفرد الحياة وإن كان بين الأحياء، ويجعل لا معنى لوجوده أو دوره؛ كريشه في مهب الريح تأخذها حيث تشاء مسلوبة الإرادة، لا تملك يومها ولا تعرف مستقبلها أو أين ستكون.

غير أن هناك قادة وقفوا على الضفة الأخرى من النهر، جعلوا من محبة شعوبهم السبيل إلى البناء، ذلك الحب الذي مكَّن لهم في قلوب الناس مكانة لم يكن لقوة غيره مهما كانت أن تقوم به، قادة جعلوا من مصلحة الوطن قيمة كبرى، وإسعاد أبنائه منهج حكم وسياسة حكومة، والتقدم إلى المراكز الأولى سيرة يومية ومسيرة لا تتوقف، والاستثمار في شباب الوطن ضمانة للحفاظ على المكتسبات، والارتقاء كل يوم درجات في سلم المجد والعزة آية تؤكد أن أحد أهم أركان الحكم هي محبة الشعب، وأن قوة الرضا أهم وأسبق من الرضا بالقوة، تلك هي القيادات الحقة التي يصح أن نطلق عليها رشيدة؛ وهو الذي يملك بقوة الفكرة لا بفكرة القوة، أن يحدد وشعبه مسارات الطريق وطبيعة السير والنهج فيحدث التلاقي وتلتف القلوب وتشتد السواعد.

القيادة الحقة هي التي تقوم على نشر السعادة وبث الأمل القائم على العمل والجهد، وهي التي ترى دائماً طاقات النور حين لا يراها غيرها ويغرق في ظلام دامس، قيادة ترى الانفراج قائماً في أشد لحظات الأزمة، وأن المحن تحول بالإصرار على تجاوزها إلى منح، وأن دورها يتمثل في استنفار الطاقات وشحذ الهمم والانطلاق بالأفكار الفذة إلى أبعد مدى، وترى فرص النجاح شاخصة في الآفاق الرحبة لأن الأحلام هي في الأساس أمنيات نسعى إلى تحقيقها، وعلى قدر العزم يكون الحلم الذي يصبح واقعاً.

لكل ذلك وأكثر جاءت مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم "صناع الأمل" متسقة مع منهج ارتضاه لنفسه وطريقاً للخير أصر أن يسير فيه وشعبه.

ولأن أحلام القادة تتخطى الحدود مكاناً وتبقى آثارها زماناً كان أن فتح سموه الباب على مصراعيه لكل مواطن عربي للعمل معه في صناعة الأمل لهذه الأمة، وتمهيد الطريق نحو استئناف حضارتها، ووضع شروطاً لمن يرغب في العمل مع سموه وهي إتقان مهارات البذل وخدمة الناس، وأن يكون سبق له المشاركة في عمل تطوعي أو عطاء إنساني أو أي من الأعمال الإنسانية التي تسهم في إسعاد الناس، وأن يكون مشهوداً له في مجتمعه بجمال السلوك الإنساني، إيجابياً، ومؤمناً بطاقات من حوله من أبناء الوطن العربي.

وفي تقديري أن سموه في هذا لا يضع شروطاً ولكن يرسخ قيماً ويفتح باباً للأمل والعمل، ويثبت منهجاً رشيداً، ويمهد طريقاً لكل راغب في أن يكون له دور، وقيمة هذا الدور الذي يشمل ابن الخامسة ولا يستثني صاحب الخمسة والتسعين عاماً.

إن نمط القيادة بصنع الأمل هو نهج القيادة الحقة التي تسعى دائماً لإسعاد الإنسان لأنه إنسان، وتتمسك بالأمل عندما يفعل اليأس فعله؛ فتوحد الصفوف وتستأنف السير في طريق الخير والبناء.

Email