هل تحظر.. أم تحضر؟

في تسعينيات القرن الماضي، كنت أستقل طائرة لإحدى شركات الطيران العربية، فإذا برئيس طاقم الضيافة يعلن وهو يقرأ تعليمات السلامة على الركاب أن التدخين ممنوع على متن الرحلة، وأن قوانين الشركة «تُحظر» التدخين على متن رحلاتها، لكنه نطق كلمة «تحظر» برفع التاء وفتح الحاء وكسر الظاء ورفع الراء، ما جعل المعنى هو «الإعداد» أي «التحضير» وليس «المنع» أي «الحظر».

الفارق هو في فهم المعنى أولاً وفي طريقة النطق تالياً لإيصال ذلك المعنى، وذلك الشاب لم يكن يعرف المعنى بالتأكيد، فأخطأ في نطق الكلمة، فلكي يقرأ الكلمة على أنها تعني المنع فإن نطقها يتم عبر فتح التاء وليس رفعها وتسكين الحاء وليس فتحها ورفع الظاء وليس تشديدها ورفع الراء.

يراودني شعور قوي بعد هذه السطور أن ثمة من يستغرب هذا الغرق في التفصيل على هذا النحو أو أن البعض يبتسم لكلام لم يسمعه، منذ زمن طويل، لكن من المؤكد أن ثمة من يدرك الفارق بين «الإعداد» و«المنع»، ومن المؤكد أيضاً أن كثيرين وخصوصاً من الشبان لن يدركوا الفارق.

منبع يقيني ويقين من يعرف الفرق هو أن تدهور اللغة العربية لم يعد قاصراً على الأخطاء الإملائية في الكتابة وأخطاء الإعراب فحسب، بل امتد ليشمل النطق والقراءة أيضاً، وللغة صوتية بامتياز مثل اللغة العربية، يشكل النطق فارقاً مهماً في المعنى، أما أغرب ما في الأمر فهو أن أخطاء النطق امتدت لأولئك الذين تمثل القراءة مهنتهم، أي مذيعي الراديو والتلفزيون.

قد يكون هؤلاء أقل من يخطئ في القراءة لأنني أعرف أن أغلبهم يعمدون إلى التدقيق اللغوي وتشكيل النصوص المكتوبة بمساعدة مختصين أو من هو ضليع في الغربية داخل الاستديو، لكنهم لم يسلموا أيضاً من أخطاء النطق. أما الأجيال الأصغر، فقد نست على ما يبدو كل ما له صلة بالتشكيل.

لا أعرف ماذا تعد له اللجان المعنية بمبادرات اللغة العربية ولا ما تقوم به وزارات التربية والتعليم في دولنا العربية، والأهم ما هو تقييم المعنيين بالأمر وأخصائيي المناهج للآثار التي يمكن أن يخلفها التراجع المتواصل للغة العربية، إلا أنني أميل إلى الاعتقاد أنهم ما زالوا لا يتعاملون بالفعالية الكافية، التي يمكن الاطمئنان معها إلى إمكانية وقف التدهور ورفع مهارات اللغة لدى الأجيال الجديدة.

السبب في نظري يعود إلى تقييمهم للأمر أولاً ومن الواضح أن ثمة تهويناً من نوع ما لمدى الضرر، الذي يمكن أن يحدثه تراجع اللغة.

الثاني، أن ذهنية الانبهار بالمدارس الأجنبية التي تعد سبباً رئيساً وراء إهمال اللغة العربية ما زال مؤثرة. الثالث، أن هناك خلطاً كبيراً بين نقد المناهج والمطالبة بتطويرها وبين اعتبار اللغة العربية جزءاً من هذا التدهور في نظر بعض التربويين. الرابع وهو الأهم أن أساليب تعليم اللغة العربية لم تتطور إلا بشكل بسيط.

مثل كل المهارات الأخرى، فإن تعليم اللغة لا يمكن أن يقتصر على الفصول الدراسية فقط، بل نحتاج إلى خطوات مبتكرة لجعل تعلم أساسيات اللغة جزءاً من الحياة اليومية للطلاب في كل مراحل التعليم. نحتاج أيضاً من وجهة نظري إلى آليات أخرى مساندة على المستوى الوطني في كل بلد من بلداننا. أبرز ما يمكن اقتراحه هنا هو المسابقات. لا شيء يدفع الطلاب والناس بشكل عام لتطوير مهاراتهم وحصيلتهم في أي ميدان أكثر من التنافس.

إنني من أنصار أن يتنافس الطلاب في كل الحلقات الدراسية في شتى المجالات، وإذا اتفقنا أن منافسات العلوم والروبوتات والرياضيات والفيزياء والفنون والمسرح والرياضة مطلوبة، فإن المنافسات يجب أن تشمل اللغة العربية أيضاً، لكنني أتمنى أن يتجاوز خيال معدي مسابقات اللغة العربية مسابقات الإنشاء.

على التربويين ابتكار مسابقات جديدة تناسب الفئات العمرية ومستوى تحصيلها، من مسابقات التهجئة إلى مسابقات الكتابة بأسلوب سليم وشرح معاني القصائد إلى نظم القصائد إلى مسابقة الكتابة العلمية باللغة العربية، بل وتعريب المصطلحات العلمية الحديثة، كلها تخطر ببال أي مهتم، لكن على التربويين أن ينشطوا خيالهم لابتكار وسائل جديدة، لتحفيز الطلاب على المشاركة في هذه المسابقات.

عدا المسابقات، أعتقد أننا نحتاج إلى شيء من قوة القانون لوقف مصادر كثيرة، تسهم في تدهور اللغة أبرزها المقيمين لدينا، وتأثيرهم الكبير الذي يطبع حياتنا اليومية في كل ميدان، فمن لافتات المحلات إلى المعاملات وعقود الخدمة، يسهم إهمالنا في حث الأجانب وإلزامهم باحترام لغتنا في المزيد من تدهور اللغة العربية لدى صغارنا.

سيعتمد الأمر في النهاية على الكيفية التي نقيم فيها تدهور اللغة وتوقعاتنا لآثاره. ويمكننا من خلال فهم جزئية واحدة وهي أن «اللغة هوية» وأن ضعفها لا يؤدي لضعف قدرات أجيال بأكملها على استخدام لغتها بشكل فاعل، أن نفهم الأمر في حجمه الحقيقي. تبقى كل هذه التصورات والمقترحات جزءاً يحتاج إلى عصف ذهني مثلما تحتاج إليه المناهج الجديدة، والطرق المبتكرة، التي ننتظرها لتطوير تعليم اللغة العربية.

الأكثر مشاركة