لماذا لا نحافظ على المكتسبات؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

من صفحات على موقع «فيسبوك» إلى رسائل يعاد إرسالها من وقت لآخر على تطبيق «واتساب»، تغرق أجيال من العرب في النوستالجيا وهي تتداول أفلاماً وصوراً ومقالات عن بعض الدول العربية في عهد الملكية أو قبل أربعة عقود أو أكثر في مقارنة باعثة على القنوط مع واقع الحال اليوم.

فمن صفحات مكرسة للملك فاروق في موقع «فيسبوك» إلى صفحات أخرى مماثلة عن العراق وسوريا ودول عربية أخرى، لا يبدو الحنين مجرد ثمرة لذاكرة جيل أقدم، بل إنه يستدعي مقارنة لا بد منها مع الحاضر.

تذكرنا صفحة الملك فاروق على موقع «فيسبوك» بشيء من عظمة كانت عليها مصر عبر الصور المنتقاة للشوارع الجميلة المنسقة بالأشجار والعمارات ذات الطابع الفرنسي.

وثمة رسالة متكررة تصلنا عبر «واتساب» مع صورة لأحد شوارع القاهرة في الثلاثينات أو الأربعينات من القرن الماضي تذكرنا أن القاهرة اعتبرت في تلك الأيام أجمل مدن العالم، مقابلها صور لنفس الشوارع وهي مكتظة بالبشر بشكل في فوضى كاملة يتناثر على أرصفتها باعة خضروات وتنتشر فيها القذارة.

ثمة رسائل مصورة من نوع آخر هي تلك التي تظهر لنا طلاباً جامعيين في الخمسينات أو الستينات تظهر فيها فتيات دون حجاب يرتدين تنانير قصيرة وما شابه وبقربها صورة أخرى لفتيات جامعيات مغطيات بالسواد أو بالحجاب.

آخر هذه الصور صورة بالأسود والأبيض لفتيات في قاعة محاضرات بشعور قصيرة مقصوصة على الموضة وأسفلها صورة أخرى لفتيات في نفس القاعة مغطيات بالنقاب الأسود وتعليق يقول إن المنقبات هن حفيدات هاتيك النسوة في الصورة الأقدم.

مقارنات العراق تركز على الحياة في العقود الماضية وبين ما آل إليه الحال الآن، وأبلغ تلك المقارنات صورة بالأسود والأبيض تظهر تلاميذ صغاراً يرتدون زياً مدرسياً موحداً ينتظمون في صف لركوب الحافلة للمدرسة ومدرسوهم بقربهم يرتدون البدلات وربطات العنق، وصورة أخرى حديثة ملونة تظهر أطفالاً بثياب رثة يركبون عربة يجرها حمار في طريقهم إلى المدرسة.

صور ومقالات وأفلام وثائقية ومقالات أحياناً تفيض بالمقارنات التي لا تنتهي، والتي تدور دوما حول فكرة/‏ خلاصة واحدة: «أين كنا وكيف أصبحنا». قد يتساءل بعضنا عن الكيفية التي تحول فيها الحنين إلى الماضي أمراً ملازماً للذهنية العربية، وهو أمر قلما أجده لدى شعوب أخرى في أي من بقاع العالم. فالعرب وحدهم من يسكنهم الماضي إلى حد كبير، وبشكل يكاد أن يكون إحدى سماتهم الجينية.

لكن هذه الملاحظة ستعيدنا إلى حقيقة أخرى ملازمة للعرب ولربما على مر تاريخهم، فالعرب لا يعرفون كيف يحافظون على مكسب في أي ميدان. من التعليم إلى الاقتصاد إلى الثقافة والفنون، يبدو العرب وكأنهم لا يعرفون التقدم للأمام دون نكوص، ولا يعرفون أن يبنوا على أي مكسب حققوه أو تحقق لديهم في وقت ما.

وعلى مستوى الخدمة المدنية مثلاً والعمارة ومستويات المعيشة، تقترن الشكوى من تدهور مستويات المعيشة وانحدار المزيد من الفئات الاجتماعية تحت مستوى خط الفقر، بتردٍّ في الخدمات ونوعيتها وزحف الترييف على المدن. ففي مدينة جميلة مثل القاهرة، أصبحت مشاهد باعة الخضروات على أرصفة الأحياء الراقية أمراً شبه معتاد رغم محاولات السلطات المحلية الحد منها.

في كتابه الأول «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، أشار أمين معلوف إلى أن تاريخ العرب هو سنوات من النهوض تعقبها سنوات أطول من الردات والنكوص. رغم مرور الزمن، تبدو هذه الخلاصة هي الحقيقة الوحيدة المرتبطة بتاريخ العرب والمسلمين عموماً.

إن الردات والنكوص وتخريب المنجزات وتبديد المكتسبات أمر قلما نجده لدى الدول والمجتمعات الأخرى. جميع الدول تبني على مكتسباتها ولا تتراجع عن أي تقدم أحرزته في أي ميدان. فالدول التي بنت صناعة من أي نوع، لم تتراجع عن صناعاتها مثلما جرى عندنا في أكثر من دولة، بل عملت على تطويرها.

إن بلداً مثل كوريا الجنوبية خرجت من حرب مدمرة في مطلع الخمسينات، في وقت كانت فيه دول عربية أخرى قد دشنت قاعدة صناعية كبرى وكانت تحقق مستوى عالٍ من النمو وبدخل قومي يصل أضعاف الدخل القومي لكوريا الجنوبية في الخمسينات والستينات.

لكن يكفي اليوم لإدراك حقيقة أن الآخرين يواصلون التقدم، أن نعرف أن نظام التعليم في كوريا الجنوبية هو من الأفضل في العالم، وأن دخلها القومي قد تجاوز التريليون دولار منذ العام 2011 دون أن نغفل بالطبع عن حقيقة أن هواتف السامسونغ الذكية أصبحت جزءاً من الحياة اليومية في العالم كله.

المقارنات لا تتوقف، وبالإمكان الإشارة للعراق والسودان مثلاً، في هذا السياق، في استقراء سريع، سيظهر كيف أن العرب لا يحافظون على أية مكاسب ولا منجزات، إنما يسيرون في طريق محكوم بطوق أشبه بالقدر ما بين فترات نهوض قصيرة وسنوات طويلة من النكوص والتردي. والتساؤل الجدير بالطرح هنا هو عن السبب. لماذا يختص العرب بمثل هذا النوع من الذهنية والمعاندة في المضي قدماً؟

Email