التدخل الروسي في الأزمة الليبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ تفجر أحداث فبراير 2011 وخلع العقيد معمر القذافي ثم قتله ضمن تداعيات «الربيع العربي»، لم تكن ليبيا يوم في حاجة إلى تدخل عربي عاجل بجهود جماعية مخلصة كما هي الآن، فالدولة الليبية أرضاً وشعباً ومسؤولين، تمر بمرحلة في غاية الدقة والخطورة معاً، ما يجعل الجهود السياسية والدبلوماسية العربية والإقليمية عنصراً فارقاً في المستقبل، وقد تكون حاسمة في صنع السلام إذا ما نجحت في جمع الأشقاء الليبيين على كلمة سواء، والساحة مهيأة لذلك بالفعل، وربما تقود إلى جحيم من نوع مختلف إذا ما تصاعدت حدة النزوع نحو عسكرة الصراع بانتصار الولايات المتحدة والقوى الغربية لحكومة طرابلس الغرب وبدعم موسكو لبنغازي الشرق.

ما أثار القلق في الأيام الماضية تلك المعلومات حول إمكانية تدخل موسكو لكسر الحظر الدولي المفروض على الجيش الليبي ودعمه بالسلاح والعتاد، والحقيقة أنها خطوة قد تبدو متعجلة شيئاً ما، خاصة أن مياهاً كثيرة جرت في نهر الأزمة الليبية خلال الأسابيع القليلة الماضية عبر اتصالات ومباحثات ونقاشات متشعبة ومتعددة في عواصم مصر وتونس والجزائر والسلطنة دون غياب للأمم المتحدة ممثلة بمبعوثها إلى ليبيا مارتن كوبلر، في محاولات مضنية للتوصل إلى تصور مشترك يحول دون تدهور الأمور أولاً ويحاول إحياء مباحثات السلام بين مختلف الأطراف ثانياً، بعدما دخلت البلاد مجدداً في أزمة شرعية واضحة ناجمة عن تعدد القراءات لاتفاق الصخيرات الذي مر نحو عام على توقيعه دون أن يرى النور للتنفيذ الفعلي على أرض الواقع، وكذلك نتيجة تعدد المرجعيات واستمرار الانقسام ما بين الشرق والغرب داخل ليبيا ذاتها.

لعل ما يبعث على الارتياح برغم كل الصعوبات التي تحيط بجهود ومحاولات تسوية الأزمة الليبية، هو تمسك مختلف الأطراف بالحوار كوسيلة أساسية لإنهاء الخلافات، وقد تجلى ذلك بوضوح في إعلاني القاهرة الصادرين خلال الشهر الماضي بعد جولات مباحثات استمرت عدة أيام بين شخصيات ليبية من أطياف سياسية وإعلامية وفكرية متعددة وبحضور مصري رفيع المستوى.

لقد حرص الحضور على تأكيد وحدة التراب الليبي وحرمة الدم باعتبار ليبيا دولة واحدة لا تقبل التقسيم، ووحدة الجيش الليبي إلى جانب شرطة وطنية لحماية الوطن والاضطلاع الحصري بمسؤولية الحفاظ على الأمن وسيادة الدولة، وضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة ووحدتها واحترام سيادة القانون وضمان الفصل بين السلطات وضمان تحقيق العدالة.

وترسيخ مبدأ التوافق وقبول الآخر ورفض كافة أشكال التهميش والإقصاء، ورفض وإدانة التدخل الأجنبي، وأن يكون الحل بتوافق ليبي وتعزيز وإعلاء المصالحة الوطنية الشاملة، والمحافظة على مدنية الدولة والمسار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة.

وفقاً لبيان القاهرة فقد دار حوار مفتوح ومعمق تم خلاله التطرق إلى الأوضاع الراهنة والتوافق على عدة مطالب من بينها إدخال بعض التعديلات على ما تضمنه اتفاق الصخيرات من أحكام وملاحق ليكون من شأنه إنهاء حالة الانقسام التي تعيشها البلاد منذ العام 2014، ويضع حداً للأوضاع المتدهورة على كافة الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والإنسانية التي تتخبط فيها البلاد وتطحن مواطنيها وتزيد في معاناتهم.

توصل المجتمعون للمقترحات التي يرونها لتجاوز أزمة الاتفاق السياسي والوصول به إلى الوفاق الوطني؛ تعديل لجنة الحوار بشكل يراعي التوازن الوطني وتعديل الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة الثامنة من الاتفاق السياسي من حيث إعادة النظر في تولي مهام القائد الأعلى للجيش، ومعالجة المادة الثامنة من الأحكام الإضافية من الاتفاق السياسي بما يحفظ استمرار المؤسسة العسكرية واستقلاليتها وإبعادها عن التجاذبات السياسية، وإعادة النظر في تركيب مجلس الدولة ليضم أعضاء المؤتمر الوطني العام المنتخبين في 7-7-2012 وإعادة هيكلة المجلس الرئاسي وآلية اتخاذ القرار لتدارك ما ترتب على التوسعة من إشكاليات.

من الأهمية بمكان عدم تجاهل هذه المطالب، بل والعمل على تنفيذها لتحقيق التوافق السياسي المنشود بموافقة مختلف الأطراف مادامت هذه المطالب تتم وفقاً لآلية سياسية سلمية تؤول في نهايتها الكلمة للمواطن الليبي.

خاصة بعدما ظهرت في الأفق أزمة جديدة قد تهدد جهود السلام في ظل إثارة مشكلة الشرعية المتمثلة في إصرار بعض الأطراف على انتهاء مدة المجلس الرئاسي الليبي في 17 ديسمبر الماضي، في حين تؤكد أطراف أخرى أن شرعية المجلس لن تنتهي في ذلك التاريخ، لأن مدة العام التي حددها الاتفاق السياسي تبدأ من تاريخ تضمين ذلك الاتفاق في الإعلان الدستوري، وهو الأمر الذي لم يتم بعد.

لكن كل هذا بعد تضمين الاتفاق في الإعلان الدستوري أولاً، وذلك بعدما فشل مجلس النواب على مدى العام الماضي في عقد جلسة رسمية للتصويت على تضمين الاتفاق السياسي للإعلان الدستوري كما تنص وثيقة الاتفاق الموقعة في الصخيرات، وذلك لمطالبة نواب إجراء تعديلات عليها، ومنها حذف المادة الثامنة محل الجدل، والتي تحيل جميع الصلاحيات السيادية مثل تعيين القائد الأعلى للجيش، إلى المجلس الرئاسي وليس مجلس النواب.. مثلما سبقت الإشارة.

برغم هذا التباين في وجهات النظر إلا أنه من الإنصاف التأكيد مجدداً على أن ما يجمع الليبيين أكثر بكثير مما يفرقهم، وأن هناك طروحات سياسية تستحق بالفعل التعاطي معها لإصلاح الثغرات التي رافقت اتفاق الصخيرات منذ بدايته، ما يستدعي تكثيف الجهود العربية والإقليمية المخلصة للحيلولة دون استنساخ سوريا أخرى على الأراضي الليبية.

Email